محمد محمود عيسى يكتب : ينتظرون موتك
يتسابق الجميع عندما يرونك مقبلا في الصباح لتحيتك والترحيب بك ويرسم كل واحد منهم ابتسامة عريضة على وجهه ليستقبلك بها. يسارع الجميع إليك مرحبين وكل واحد منهم يقدم لك فروض الولاء والطاعة.
يتنافس الجميع في الاقتراب منك والتقرب إليك وتشتد المنافسة بينهم في تقديم فروض الولاء والطاعة التي صنعتها أنت بذكائك وقدرتك في إدارة من حولك وفي سبيل الحصول على رضاك يسلكون طرقا غير شرعية من الكذب والنفاق ونقل الأخبار الصادقة والكاذبة حتى أنهم في سبيل الفوز بالقرب منك إذا لم يجدوا أحدا يتحدثون عنه أمامك يتحدثون عن أنفسهم وعن أخبار بيوتهم وحياتهم لعل أحدهم يكون محظوظا وكذبته تنال إعجابك وتعطيه المكافأة بابتسامتك له
ومع أنهم يتمتعون بوظائف راقية ومرتبات عالية لديهم قناعة تامة أن بقائهم في هذه الإدارة الراقية لابد أن يكون بموافقة منك مع العلم أنه صدرت بعض القرارات من الإدارة العليا قللت من صلاحياتك في العمل ولكنها لم تقلل من سطوتك ونفوذك على من يعملون تحت إدارتك ومن الممكن أن تخرج إلى المعاش في العام المقبل وهم يعلمون ذلك تماما
والغريب أن السائق الذي يقود سيارتك يتعامل معك في حدود وظيفته ودوره فقط حتى الرجل الذي يجلس أمام باب الإدارة يرد عليك تحية الصباح بصوت طبيعي منخفض لكنه مسموع نموذج من الناس رغم بساطته إلا أنه لا يعرف الكذب والنفاق ولا يجامل بنفسه ولا بكرامته ولا بعزة نفسه وأدميته وإنسانيته
وأجمل ما في قصتك أنه بعد أن تنتهي وصلة النفاق والكذب الصباحية التي يستقبلك بها الجميع يخرجون من مكتبك وكل واحد منهم يذهب إلى مكان عمله لكي يحضر ما سيقوله للناس من مكارم الأخلاق وقيم الصدق والوفاء والضمير
ويجلس كل واحد منهم على مكتبه وينظر نحو السماء سارحا سابحا حالما ويدور بينهم حوار في لحظات من رفض وتمرد
أحدهم يقول: متى يأتي اليوم الذي اسمع فيه خبر وفاته
يرد الأخر: ولكنه سيحال إلى المعاش قريبا
ويرد عليه قائلا: انتظر اليوم الذي أسمع فيه خبر وفاته لعلي أجلس على مكتبه (ويحدث نفسه بأمنيته في لحظة تمرد وثورة على الخوف والمذلة والخضوع المهين)
وبصوت هامس يقول الجميع نعم …. نعم …. متى سيموت
وكأن كل واحد منهم أخذ على زميله أمنية الموت لمديره حتى أوشك الجميع على الهتاف متى ستموت …. متى ستموت
ووسط هذه الحالة من التمرد والرفض والأمنيات الخادعة يخرج هو من مكتبه ويتسابقون هم إليه لمواصلة حياة الكذب والنفاق والخضوع والمذلة
ينظر إليهم منتشيا منتصرا وكأنه كان يسمع حديثهم بل ويعيش في ضمائرهم ويسكن نفوسهم وكأنه يعلم تماما أن أخرهم أمنيات وكلمات تهمس على جدار الخوف لكنها لا تحطمه وهواجس تنتاب ظلمات نفوسهم لكنها لا تملك القوة والجرأة في أن تخرج إلى النور والحقيقة والمواجهة
أسأله لماذا لا تعطيهم بعض الحرية
ويجيب: هم هكذا يعيشون في دنيا الخضوع والمذلة بحريتهم وباختيارهم لا تتصور أنهم مرغمين على ذلك ولو حاولت أن أحررهم منها سيعودون إليها مرة أخرى مع غيري لقد أدمنوها وأصبحت جزءا مهما من حياتهم ولا تتصور أنهم أشقياء تعساء من كثرة شكواهم وتضررهم هم يشكون ويتضررون ولكنهم في قرارة أنفسهم سعداء.
سعداء لأنهم وجدوا إله مصنوع من التمر يعبدونه في النهار ويأكلونه ليلا في أحلامهم
ولكنك تعاملهم بحذر وحساب شديد
نعم أعاملهم بحذر وحساب شديد لأنهم يعيشون الشيء ونقيضه في وقت واحد يشتكون من تسلطي وسلطتي ويتمنى كل واحد منهم أن يجلس مكاني لكي يمارس نفس التسلط والتجبر والاستعلاء
يعارضون سلطتي ويتمنى كل واحد منهم في قرارة نفسه أن يكون جزءا منها وفردا من أفرادها
أعاملهم بحذر وحساب شديد لأن الحرية بالنسبة لهم كجرعات الدواء لابد أن تكون محسوبة ومقدرة
ولكنهم أحيانا يكثرون الكلام والشكوى
الكلام لا ضرر منه
والشكوى أنا أصنع أسبابها لكي تشغلهم دائما
ولكنهم ينتظرون موتك
لا تصدقهم