مقالات الرأى

محمد صبحي الغنيمي يكتب:- (( هدي عبد الناصر تنشر أوراقًا خاصة بخط والدها عن ذكريات تأميم قناة السويس ))

تمر علينا هذه الأيام ذكرى يوم من أهم أيام تاريخ مصر الحديثة، وهو يوم عودة الحقوق إلى أصحابها.. تأميم قناة السويس.. وليس هناك مَن يقدر أن يسرد ما حدث سوى صاحب الحدث ظن نفسه بخط يده.. وهو الرئيس جمال عبدالناصر، صاحب قرار التأميم.. وتنقل عنه نجلته، الدكتورة هدى عبدالناصر، ما كتبه الرئيس حول هذه الأحداث في كتابها «الأوراق الخاصة»، الملىء بالوثائق الخاصة بفترة حكم والدها..
يحتوى الكتاب الذي قُسم لأجزاء كثيرة على العديد من الوثائق وسرد الأحداث، ونركز هنا في هذه المساحة حول ما يخص واقعة تأميم قناة السويس في يوليو ١٩٥٦.. ونبدأ بسرد سبب من أسباب التأميم، وهى كثيرة، وهو قرار الغرب بسحب تمويل مشروع السد العالى، الذي برروه، في بيان أصدروه، بأن مشروع السد العالى ذو جسامة بالغة، وإتمامه يستغرق ما بين ١٢ و١٦ سنة، وتُقدر نفقاته بنحو ١٣٠٠ مليون دولار، منها أكثر من ٩٠٠ مليون دولار بالعملة المحلية المصرية.
ثم تكلموا عن حقوق في مياه النيل؛ على أساس أن هذا المشروع لا يؤثر في حقوق مصر ومصالحها وحدها، بل يؤثر كذلك في حقوق بلاد أخرى ومصالحها، تسهم في مياه النيل؛ ومنها السودان وإثيوبيا وأوغندا.

وعلى هذا انتهت أمريكا إلى أنه من غير العملى في الظروف الحاضرة أن تشترك في المشروع. وتذكر هدى عبدالناصر في كتابها رد فعل عبدالناصر بقوله: «ما الغرض من هذا الإجراء؟. يعاقبون مصر لأنها رفضت أن تقف بجانب التكتلات العسكرية، ولا نأخذ أوامرنا من هناك. وعندما قابلت يوجين بلاك قلت له نحن لدينا عقدة من الاحتلال السياسى عن طريق الاحتلال الاقتصادى».

وتضيف: كما سبق يتضح أن سحب تمويل السد العالى من الغرب أثار غضب جمال عبدالناصر، فخاطب الشعب في ٢٤ يوليو، قائلًا: «قامت في واشنطن ضجة تعلن كذبًا وخداعًا وتضليلًا أن الاقتصاد المصرى يدعو إلى الشك، فإننى أقول لهم موتوا بغيظكم، فلن تستطيعوا أن تتحكموا فينا وأن تستبدوا بنا». لقد كان

عبدالناصر في بريونى في يوغوسلافيا، ورجع إلى القاهرة ليلًا بصحبة نهرو، وأول شىء عرفه في المطار كان قرار أمريكا بسحب تمويل السد العالى، وفى اليوم التالى صدر قرار من بريطانيا بسحب التمويل، وفى اليوم الثالث صدر قرار من البنك الدولى بسحب عرض إعطاء مصر قرضًا للسد العالى. وقد قال إيدن بعد ذلك في مذكراته إنه لم يكن لديه نية أبدًا أن يعطى مصر الخمسة ملايين جنيه المعونة، ولكنه اختلف مع دالاس في طريقة رفض العرض؛ لأن إيدن كان يفضل أن يماطل، ولكن دالاس أخذ قرارًا قاطعًا، وأفصح عن النوايا. وعن بداية التفكير في الرد يقول ناصر: «بعد ذلك فكرنا في العمل الذي يجب أن نتخذه، وقدّرنا الموقف، وكان واضحًا أن الغرب لا يريد لنا أن نقوى، ولا يسمح لنا بأن نخرج من مناطق النفوذ، وكان يعتبر المنطقة تقليديًّا ضمن الموقع الاستراتيجى المهم له، بترول المنطقة في البلاد العربية وأعوان الاستعمار في البلاد العربية كان يريد أن يحميهم، وطبعًا إسرائيل أيضًا كان يريد أن يثبت وضعها، ولا يعطى أي بلد عربى من القوة ما يُمكِّنه من أن يهدد إسرائيل. قدّرنا في هذا الموقف أننا نستطيع أن نأخذ من قناة السويس حوالى ٦٠ مليون جنيه، كنا نأخذ منها فقط مليون جنيه، و٥٩ مليون جنيه تذهب للشركة الإنجليزية- الفرنسية. وعلى هذا الأساس قررنا أن يكون ردنا على سحب تمويل السد العالى؛ تأميم قناة السويس». وفى خطابه، في ٢٦ يوليو ١٩٥٦- يوم مرور ٤ سنوات على تنازل الملك فاروق عن العرش- شرح جمال عبدالناصر للشعب قصة عرض تمويل مشروع السد العالى وسحبه من الولايات المتحدة والبنك الدولى وبريطانيا، وأعلن ما يلى:

«باسم الأمة.. رئيس الجمهورية.. أصدر القانون الآتى:

مادة 1: تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات، وتُحَل جميع الهيئات واللجان القائمة حاليًا على إدارتها». ويحكى جمال عبدالناصر أنه استدعى محمود يونس- الذي كان زميلًا له في هيئة التدريس بكلية أركان الحرب قبل ثورة يوليو- وكلفه بمسؤولية عمليات الاستيلاء على شركة قناة السويس، وكان كل شىء مُعَدًّا سلفًا، حيث كان الجنود ينتظرون، ومعهم أوامر مختومة باحتلال مكاتب شركة قناة السويس ومنشآتها. وكان محمود يونس يعلم أن كلمة السر للبدء في العملية ذكر كلمة «ديليسبس» في الخطاب.. «وما إن فرغت من إلقاء خطابى حتى كانت العملية كلها قد نُفذت. ولم أكن أتصور مدى الفرحة التي استُقبل بها تأميم القناة، لا من الشعب المصرى وحده، لكن في العالم العربى كله، وتكاد تكون هذه هي المرة الأولى التي تجلت فيها الوحدة العربية التامة على المستوى الشعبى.

أما في الغرب، فقد كان رد الفعل كما توقعته؛ فالصحافة نادت باستعمال القوة، لكنها- كما توقعت- لم تكن جاهزة حتى يمكن استعمالها. وعن رد الفعل الغربى بعد خبر التأميم، فقد طلب أنتونى إيدن مقابلة السفير الفرنسى والقائم بالأعمال الأمريكى، وشرح لهما خطورة الموقف، ثم دعا في اليوم التالى أعضاء الوزارة ورئيس أركان حرب الجيش البريطانى إلى الاجتماع، واتفقوا كلهم على أنهم لا يمكن أن يسمحوا لناصر بأن يسيطر على القناة بهذه الطريقة، وقرروا أنهم إذا وقفوا بشدة فستؤيدهم كل القوى البحرية، وإذا لم يفعلوا فإن نفوذ الغرب في الشرق الأوسط سيضمحل.

وعن الموقف الأمريكى، فكان رأی أیزنهاور أنه مع تقدير قيمة القناة للعالم الحر، واحتمال أن استخدام القوة يصبح ضروريًّا لحماية الحقوق الدولية، إلا أنه كان يأمل أن يتمكن من أن يتم الضغط على الحكومة المصرية، بحيث يضمن التشغيل الكفء للقناة في المستقبل. إن المؤتمر على الأقل سيكون له أثر إعلامى في العالم، كما أن الرأى العام في أمريكا وفى العالم سيغضب إذا لم تُبذل هذه الجهود. وكتب أيزنهاور لـ»إيدن» أنه توجد عدة حقائق سياسية يجب تذكرها؛ فاستخدام القوة العسكرية للولايات المتحدة ممكن فقط من خلال الكونجرس- وهو في ذلك الوقت لم يكن منعقدًا- ولكن يمكن أن ينعقد إذا طلبه الرئيس لأسباب خاصة. وإذا كان ذلك يتضمن استخدام القوة العسكرية في الخارج، فإنه يجب بيان أن كل وسيلة سلمية لحل المشكلة قد استُخدمت مسبقًا. بدون ذلك، سيؤثر رد الفعل على شعور الشعب الأمريكى تجاه حلفائه الغربيين، وتكون العقبات بعيدة الأثر.

زر الذهاب إلى الأعلى