مقالات الرأى

محمد صبحى الغنيمى يكتب: جمال حمدان يصف سيناء في ذكرى التحرير

مرت علينا منذ أيام ذكرى عزيزة على قلوبنا جميعا وهى ذكرى تحرير سيناء الحبيبة فى 25 إبريل 1982 التى ارتوت بدماء المصريين لتحريرها من الكيان الصهيونى.
فعيد تحرير سيناء عيد قومى يحتفل الشعب المصرى به فى 25 إبريل من كل عام.. ذلك اليوم الذى استردت فيه مصر أرض سيناء بعد صراع طويل بينها وبين إسرائيل حيث شهدت معارك شرسة خلال حرب 1973، كانت نتائجها بمثابة صدمة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية وانتصارا كاسحا للسياسة العسكرية المصرية، حيث بذل جيش مصر وشعبها كل وسائل النضال والكفاح المسلح لتحرير أرضها منذ عام 1967 ثم حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 ثم مباحثات كامب ديفيد عام 1978 التى أدت لتوقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979 التى نصت على انسحاب إسرائيل بشكل كامل من شبه جزيرة سيناء وعودة السيادة المصرية على كامل ترابها المصرى لكن بشكل تدريجى، وكان 25 إبريل هو تاريخ رحيل آخر جندى إسرائيلى من مصر وتم رفع العلم على مدينتى رفح وشرم الشيخ فى ذلك اليوم واستكمال الانسحاب الإسرائيلى من سيناء بعد احتلال دام 15 عاماً. وخلال الانسحاب النهائى الإسرائيلى من سيناء كلها فى 25 إبريل عام 1982، تفجر الصراع بين مصر وإسرائيل حول طابا وعرضت مصر موقفها بوضوح «لا تنازل ولا تفريط عن أرض طابا»، واستغرقت المعركة الدبلوماسية لتحرير هذه البقعة الغالية 7 سنوات من الجهد الدبلوماسى المصرى المكثف‏.
وكان لإسترداد أرض سيناء نتائج مباشرة على الصعيدين العالمى والمحلى، حيث انقلبت المعايير العسكرية فى العالم كله واسترد المقاتل المصرى والعربى الثقة بنفسه وقيادته. ولسيناء مكانة متميزة جغرافيا حيث إنها محور الاتصال بين آسيا وإفريقيا ويحتوى كل شبر من أرضها على كنز.
وليس أفضل من يتكلم عن أهمية سيناء التاريخية والاستراتيجية من الدكتور الراحل جمال حمدان، حيث استحوذت «سيناء» على تفكيره واحتلت مكانًا بارزًا فى كتاباته ومؤلفاته، فأولاها مكانة خاصة بوصفها أهم وأخطر مدخل لمصر على الإطلاق، وبوصفها كذلك وحدة جيواستراتيجية واحدة، لكل جزء منها قيمته الحيوية. وكان قد أشرف على إخراج هذا الكتاب فى شكله الحالى تمهيدًا لنشره، وذلك قبل أن توافيه المنية.
ويناقش دكتور جمال فى هذا الكتاب الهام سيناء من جميع جوانبها: الاستراتيجية والسياسية والجغرافية..
ويبدأ قائلا: الواقع أنه إن تكن مصر ذات أطول تاريخ حضارى فى العالم، فإن لسيناء أطول سجل عسكرى معروف فى التاريخ تقريبا. ولو أننا استطعنا أن نحسب معاملا إحصائياً لكثافة للحركة الحربية. فلعلنا لن نجد بين صحارى العرب. وربما صحارى العالم، رقعة كالشقة الساحلية من سيناء حرثها الغزوات والحملات العسكرية حرثا. من هنا فان سيناء أهم وأخطر مدخل لمصر على الإطلاق. إنها لخيير بالنسبة للهند، أو كممر دز ونجاريا بالنسبة لوسط آسيا، أو هى ترموبيل مصر. بل إننا ليمكن أن نقول إنها بمثابة ثلاثتها جميعا، وذلك بمضايقها الثلاثة ممر مثلا إزاء السويس وطريق الوسط إزاء الإسماعيلية وطريق ساحل الكثبان الشمالى ابتداء من القنطرة. وبغير مبالغة ذلك: فسيناء أيضاً مدخل قارة برمتها مثلما هى مدخل مصر.
ويضيف «حمدان»: «من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول، ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم فى سيناء، من يسيطر على سيناء يتحكم فى خط دفاع مصر الأخير، كان هناك دائما عدو يشكك بطريقة ما فى مصرية سيناء ويطمع فيها بصورة ما، بالضم، بالسلخ، بالعزل».
يقول «حمدان» عن محاولات ضم أو سلخ أو عزل سيناء: «قد تكون غالبًا أو دائمًا أرض رعاة، ولكنها قط لم تكن أرضًا بلا صاحب.. منذ فجر التاريخ».
ثم ينتقل للحديث عن الأهمية الجغرافية والسواحل التى تتمتع بها سيناء يقول «حمدان»: «بلغ مجموع سواحل سيناء 700 كم من 2400 كم هى مجموع سواحل مصر، فسيناء (61 ألف كم مربع) تشكل 6.1% من مساحة مصر، وتستأثر بنحو 29.1% من سواحل مصر، لهذا ينخفض معامل القارية فى سيناء كثيرًا إذا ما قورن بنظيره فى مصر ككل، ذلك إن سيناء تمتلك كيلومترًا ساحليّا لكل 87 كم مربع من مساحتها، مقابل كيلومتر لكل 417 كم مربع فى مصر عمومًا».
وتنقسم سيناء جغرافياً إلى 3 أقاليم طبيعية من الشمال إلى الجنوب، وسهول واسعة تعرف بسهول العريش والهضبة الوسطى «هضبة التيه»، ثم الكتلة الجبلية المشهورة باسم «جبل الطور».
أما «جبل الطور» أو «إقليم الجبال» الذى يميز الكتلة الجبلية الحقيقية، حيث الصخور النارية البلورية الجرانيتية الصلدة، فهو يحتل الثلث الجنوبى الأقصى والأضيق من مثلث شبه جزيرة سيناء ما بين الخليجين، فهو محدود المساحة، وأقل من ثلث شبه الجزيرة لكنه متميز ومتبلور الشخصية جداً، حيث الجبال المدببة الشاهقة والكتل الجبلية الضخمة الحادة، باختصار إنه نواة سيناء الصلبة وقلعتها المعزولة.
وعن الثروات الطبيعية فى باطن أرض سيناء يقول: أوضح، بما لا يدع مجالا للشك، أننا عندما نقف على أرض سيناء فإننا نقف على أقدم منجم عرفه تاريخ الإنسانية كلها لا التاريخ المصرى القديم فحسب.. ودلل على ذلك بما يتبقى حتى الآن من آثار وبقايا التعدين القديمة، التى تحمل لنا فى بعض المناطق ببوتقات وقوالب السّبك وكسر الرخام، من الذهب إلى الفيروز والنحاس، ومن المغارة إلى صرابيت الخادم.
ويضيف حمدان: «شرم الشيخ بصفة خاصة جدا هى التى تعد المفتاح الاستراتيجى لكل المثلث الجنوبى، فهى وحدها التى تتحكم تماما فى كل خليج العقبة دخولا وخروجا عن طريق مضيق تيران. فهذا المضيق المختنق كعنق الزجاجة، الذى تزيده ضيقا واختناقا جزيرتا تيران وصنافير فى حلقه، لا يترك ممرا صالحا للملاحة إلا لبضعة كيلومترات معدودة تقع تماما تحت ضبط وسيطرة قاعدة شرم الشيخ الحاكمة».
ثم يتحدث حمدان عن محاور سيناء الاستراتيجية: فإذا بدأنا بثلاثية المحاور وجدنا ثلاث مجموعات من الطرق الشريانية العرضية التى تستحيل للحركة الميكانية خارجها: محور الشمال الذى يوازى الساحل، ومحور الجنوب الذى يصل بين زاوية البحر المتوسط قرب رفح ورأس خليج السويس، وبينهما محور الوسط الذى يترامى كقاطع بين زاوية البحر المتوسط وبين منتصف قناة السويس عند بحيرة التمساح.
ثم شرح كيف أثر التركيب الجيولوجى لكل خليج على ثروته: «خليج السويس خليج بترول غنى أرضًا وماءً، بينما خليج العَقبة خليج جاف بتروليّا، ولا شك أن هذا الفارق يفسر بعض مَظاهر الاختلافات البشرية والعمرانية على شواطئ الخليجيْن وفى مياههما، ولو أن الفارق التاريخى والبشرى الحاسم إنما- يقينًا- من تفرد خليج السويس بقناة ملاحة الشرق- الغرب العظمى- فكان شريانًا عالميّا، حيث ظل العَقبة منزويًا كزقاق مغلق مظلم شبه مهجور، وأنه بدأ يتحول مؤخرًا إلى حارة أو عطفة محلية لأسباب طارئة عابرة غالبًا».
وقد ساهم تطور الحروب فى تحويل سيناء إلى أرض معركة بعد أن كان طريق معركة، وذلك حين كانت نقطة ارتكاز للوثوب إلى ساحل البحر الأحمر بالسلاح البحرى أو بالطيران وكانت شرم الشيخ هى مفتاح هذا المثلث.
ويرجع «حمدان» ضعف عدد سكان سيناء إلى أنها أصبحت مطمعاً للمستعمرين فقال: «كان هناك عدو يشكك بطريقة ما فى مصرية سيناء ويطمع فيها بصورة ما بالضم أو بالسلخ أو بالعزل، ولكن أعود وأكرر «التعمير.. التعمير» هو الرد العملى على أطماع نزع الهوية عن سيناء وأيضاً لحمايتها.
ومن بين المقترحات التى قدّمها جمال حمدان لربط سيناء بالوادى والدلتا منذ ما يزيد على أربعة عقود، توصيل مياه النيل أسفل قناة السويس عبر صحارى خاصة من ترعة الإسماعيلية.
وعن هذا المشروع تحدّث: إنها فكرة قديمة، وقد تحققت مؤخرًا.. وبها عاد قطاع من سيناء كما كان فى القديم جزءًا من حوض النيل، وكانت خطة المشروع زراعة 50 ألف فدان فى غرب سيناء، يمكن التوسع فيها مستقبلا لتشمل استصلاح سهل الطينة، كما يمكن مَده ليتصل بوادى العريش نفسه مباشرة أو حتى عن طريق وادى الحاج ووادى بروك، وهناك تقديرات مليونية لإمكانيات التوسع إذا تحققت فستنقلب الصورة تمامًا».
وطالب فى نهاية دراسته المتعمقة بأن تكون إعادة تعمير سيناء قطعة رائدة من التخطيط القومى والإقليمى، العمرانى والاستراتيجى، تضع التحدى الحضارى على مستوى التحدى العسكرى.
ورسم ملامح حلم هذا التعمير بأن يكون الساحل الشمالى غنيًا بالزراعة، والغربى نشطًا فى مجال التعدين، والشرقى فى مجال الرعى، وأن تكون قناة السويس مزدوجة، ويتجمع العمران الكثيف حول ضفتيها، وأن تكون هناك سلسلة من الأنفاق تحت القناة تحمل شرايين المواصلات البرية والحديدية.

زر الذهاب إلى الأعلى