مقالات الرأى

محمد أمين المصري يكتب: حركة شفاه الروس!

0:00

يبدو أن العالم الواقعي في روسيا يتراجع لمصلحة العالم الافتراضي، إذ بات الروس يعتمدون على نتائج استطلاعات الرأي بدلا من تحليلات السياسيين والخبراء الإستراتيجيين، فكلامهم وأراؤهم لم تصل بالحرب الروسية – الأوكرانية إلى نهاية.

وكالة “بلومبرج” استطلعت أراء سبعة اقتصاديين وسياسيين من النخبة الروسية، وانتهى رأيهم إلى قناعة تامة باهتزاز قيادة فلاديمير بوتين للحرب، وأن أفضل حل هو إطلاق مفاوضات مع أوكرانيا تؤدي في النهاية إلى تجميد الصراع، بما يمنح بوتين فرصة الإدعاء بالانتصار في الحرب نتيجة استمرار سيطرة روسيا على بعض المناطق الأوكرانية التي احتلتها في البداية..علما بأن قادة أوروبا وأمريكا لا يريدون إذلال الرئيس الروسي وإعلان هزيمته، لأنه في هذه الحالة سيلجأ إلى الخيار النووي الذي طالما هدد به إذا تعرض لحرب ضد حلف الناتو.

القوميون الروس المتشددون يشاركون النخبة الروسية في قلقهم بشأن نهاية الحرب، فقدرات روسيا على إحراز تقدم على الأرض أصبح مستحيلا بفعل الحرب الأوكرانية المضادة داخل الأراضي الروسية بعد تلقي كييف إمدادات أسلحة ضخمة من الاتحاد الأوروبي وأمريكا، ما هدد صورة شخصية بوتين كحامية للأمن القومي الروسي.

وبلغ الأمر سوءا أن اقترح يفجيني يريجوجين مؤسسة مجموعة “فاجنر” المسلحة، إعلان التعبئة العامة وفرض الأحكام العرفية لتجنب هزيمة مدوية، في وقت وصلت فيه الحرب شهرها الـ16 بدون نتائج يلمسها الشعب الروسي ونخبته.

النخبة الروسية بمشاركة القوميين المتشددين يسخرون سرا من إصرار بوتين وقيادات جيشه من أن روسيا ستنتصر، في حين أن الهدف الرئيسي من شن الحرب فشل فيه الجيش وهو الاستيلاء على العاصمة الأوكرانية كييف.

تعترف النخبة الروسية بأن أقوى سلاح لدى بوتين في الحرب ليس أسلحته وإنما “الإعلام” الذي أقنع الروس العاديين بأن بلادهم تواجه حربا كونية وليست أوكرانيا بمفردها، فالولايات المتحدة وحلف الناتو يشاركان بقوة في تقديم الدعم العسكري والتسليحي والعملياتي للجيش الأوكراني..ونجح الإعلام في توصيل رسالته، لأن استطلاعات الرأي الروسية تشير إلى استمرار تأييد الشعب لبوتين الذي أوهم شعبه بفكرة الحنين إلى عصر الاتحاد السوفيتي إحدى القوتين العظميين.

أما لماذا يلجآ الغرب لاستطلاعات رأي النخبة الروسية بعيدا عن وسائل النشر التقليدية، فهذت مرده أن المحاكمات الروسية تنشط حاليا في تعقب فئات مختلفة من الشعب الروسي ممن ينتقدون أداء بلادهم وجيشهم في الحرب الدائرة مع أوكرانيا، وتم توجيه عقوبات بالسجن لسنوات لبعضهم.
وعلى سبيل المثال، استغرق القضاء الروسي عاما كاملا تقريبا ليحكم قبضته على المؤلف الموسيقي الكسندر باختين (٥١ عاما) وبالاضافة الى عمله الموسيقي فهو مهتم أيضا بالدفاع عن البيئة، أما تهمة باختين فتتعلق بنشر رأيه صراحة على وسائل التواصل الاجتماعي داخل روسيا، وانتقد بشدة الحرب الروسية على أوكرانيا وزادت جرأته في منشور له ليوجه سهام نقده الى الرئيس فلاديمير بوتين نفسه..باختين كتب أراءه ما بين مارس وأبريل ٢٠٢٢ أي بعد الحرب مباشرة ولكن تم توقيفه قرب منزله بضواحي موسكو مارس ٢٠٢٣ وتعرض لاتهام ببث معلومات مضللة عن الجيش الروسي ويواجه عقوبة تصل لمدة ١٠سنوات.

باختين ليس وحده المعرض للسجن، فهناك مهندس طيران اعتقد أن من حقه التعبير عن رأيه في الحرب، فتم توجيه اتهام أناتولي روشتين (٧٥ عاما) بالنيل من القوات الروسية نتيجة نشر أرائه على الانترنت وانتقد فيها الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا.
عقوبة روشتين ربما ترتفع عن باختين كما أوضح تقرير للشرق الأوسط، بسبب لجوئه الى الواقع حيث رفع لافتة أمام بلدية مدينته مكتوب عليها “بلدي أصبح مجنونا”.. وقال إن المارة شاهدوه ولكنهم تظاهروا بأنهم لم يرونه، وهم في الواقع كانوا خائفين لو اقتربوا منه وتعاطفوا معه.

الفكرة أن باختين وروشتين وغيرهما حاولوا أن يكونوا واقعيين، فكان السجن مصيرهم، ولذا لجأت النخبة إلى استطلاعات الرأي السرية للتعبير عن رأيها بعيدا عن أعين المراقبين والقضايا.أخطر ما يواجه بوتين هو تحذير رئيس “فاجنر” من أن روسيا قد تواجه ثورة شبيهة بالثورة البلشفية التي أطاحت بالقياصرة في 1917، وتشاركه النخبة الروسية نفس التحذير، ومعهم كل أباء وأمهات الجنود العائدين في توابيت الموتي..الأهم..فهل يقرأ بوتين حركة الشفاه؟..أم يظل متجاهلا ما في القلوب؟!

زر الذهاب إلى الأعلى