مقالات الرأى

محمد أمين المصري يكتب : بغلة العرش تهدد مستقبل الأسرة!

في بلدة بني سالم .. تدور رواية “بغلة العرش” للروائي الراحل خيري شلبي، وتقع أحداثها في أواسط السبعينيات إبان حكم الرئيس السادات وتحديدا بعد قرارات الانفتاح الاقتصادي، وتسرد الرواية في ساعات قليلة هي الوقت الذي يسبق ليلة القدر في أحدى السنوات، إذ ينتظر أهالي القرية جميعهم بغلة العرش التي تعني لهم مكرمة ليلة القدر، من العام للعام، فهي محملة بالذهب والمال الوفير، وتختار المحظوظ منهم وتثريه ثراءا فاحشا. كل هذا أمره عادي، ولكن المفاجأة أن بغلة العرش عندما تأتي للموعود فهي تأتي ومعها رأس قتيل يئن وعلى من يقبل الثروة المفاجئة أن يقبل دفن رأس القتيل في بيته أيضا. بين شهوة المال وثمن الرغبة في الثراء، ترتبك الحسابات وتختلف الآراء ويظهر ذلك من خلال شخصيات الرواية وحكاياتهم التي يروونها شهودا علي هذا العصر الذي ربما يعكس أحوال مصر كلها وليس بني سالم وأهلها فقط.

ونختار من شخوص الرواية عبد المجيد، هو شاب لم يكمل تعليمه الثانوي الأزهري رغم تفوقه فيه وكان أمله الالتحاق بجامعة الأزهر ليكون من علمائها الأفاضل، ولكن والده الحاج اسما ولكن اليهودي فعلا، قرر أن يترك ابنه التعليم ويعمل معه في تجارته، ورغم ذلك لم يعطه حقه حتى كأحير وكان يتركه بلا أكل طوال اليوم ويقول له “عليك أن تتحمل مشقة الحياة كما تحملتها وأنا صغير”.

“مسكينة أمي، سهرت الليلة الفائتة علي أمل مجيء بغلة العرش – في إشارة إلى ليلة القدر كما ذكرنا- عندها حق، يكفي أنها احتملت أبي، هي التي كونته، هي أول زوجة في حياته، كانت تدير قوته بملاليم وتوفر له الفلوس، وتذهب إلى الأجران لتنقل الحصاد الذي اشتراه بالقفة على رأسها نقلة بعد نقلة.. وكانت أمي هي التى تذهب للسوق في الفجر لتفرش وترش المكان بالمياه والكلمات الطيبة التي تلاطف بها الزبائن حينما يعاملهم أبي بغلظة كالعادة..لولاها ما تاجر ولا أفلح”..هكذا يتذكر عبد المجيد حياة وشقاء أمه في الصغر عندما تزوجت أبيه وهو نفر يسرح في الغيطان التي تم حصدها فيجمع ما تبقي فيها من سبلات أو لوزات قطن نسيها الحاصدون، ويعود آخر النهار بصرة مليئة بسبلات أو كيزان أو حفنة قطن أو برسيم، وإذا لم يجد شيئا من هذا يقوم بتقطيع الحشائش الخضراء من على أجناب القنيان، ويبيعها لمن يربون الأرانب أو “المعيز” بقرشين ثلاثة وأربعة بالكثير.

ويستطرد عبد المجيد حكاية أمه المسكينة:” عندما تزوج أبي أمي نجرته وحفظت له كرامته، اخترعت له وسيلة كريمة للرزق بأن يخرجا معا صباحا كل يوم قاصدين الكريم..هو يمشي أمامها بأجولة فارغة مطبقة تحت إبطه وهي من ورائه تحمل فوق رأسها قدرة مليئة بالعرقسوس المخمر، تبُرع في تخميره لدرجة أن من يذوقه لا ينساه مدى الحياة.. ينزلان الغيط على الأنفار الذين يحصدون القمح أو يضمون الأرز أو يجمعون القطن. هم في هذه اللحظة ميتون من العطش، فما يكاد منظر أمي يهل عليهم حتى يحمدوا الله ويشكروا فضله، فبدلا من شرب مياه القنيان العكرة الساخنة المليئة بالواغش، ساق الله إليهم العرقسوس الشافي المزيل للعطش طوال النهار.. كل شغلانة أبي أن يقول (السلام عليكم) فقط للأنفار الذين يهلوا على الشرب من (كوز) أمي النحاس الملمع، ترفع أمي ذراعها به وتميل بالقدر في حكمة ويفرغ البزبوز في الكوز صانعا رغوة عالية..صب العرقسوس صنعة حتى ترتفع الرغاوي عاليا..ويلف أبي بالكوز علي صاحب الغيط والأنفار، وفي النهاية يأخذ المقسوم:حزمة سنابل تملأ الحضن، حفنة قطن تملأ الحجر..وهكذا من غيط لجنينة الي عشة قيلولة، ويعودان آخر النهار محملين يكل ما في الغيطان والجناين من خيره وبعض القروش”.

ويتابع عبد المجيد:” حصيلة قدر العرقوس كانت تشمل أرزاقا ما شاء الله عليها، طماطم، بامية وكرنب وملوخية وجرجير وبطيخ وشمام وخيار..كانت أمي تعمل وتكد وما على أبي سوى أن يأكل حتى يمتلئ..ومن محصلة العرقسوس موسم بعد موسم أصبح لأبي مخزون كالتجار وأصحاب الحصاد، أصبح يبيع وتعلم كيف يخفي الصنف ليوم شدة، ولعبت الفلوس في يديه وتملك محفظة كالبرطوشة تنطوي وتغلق بكبسولات تطرقع فتصيبه بلذة ولها جيوب بطولها وعرضها، لقد أصبح أبي من ميسوري الحال”.

وطبعا دوام الحال من المحال، فسرعان ما فكر والد عبد المجيد بعد سريان الفلوس في جيبه في الزواج من أخرى ليعيش معها شبابه الذي ضاع في الغيطان، وكان أول قرار له قبل الزواج بأخرى، تطليق أم عبد المجيد وطردها هي وبناتها وعبد المجيد نفسه من المنزل ليذهبوا جميعا عن جدتهم أم والدتهم.

بقية القصة معروفة، تزوج والد عبد المجيد أكثر من مرة، وعرف كيف يتقرب من بنات الأثرياء، فصيته كتاجر ثري يسبقه في بقية البلدات والضواحي التي يعمل بها، فقد أصبح من ملاك العمارات والمصانع وأساطيل سيارات النقل، ولكن في النهاية ترك زوجته الأولى صاحبة الفضل عليه في ثروته الطائلة بلا نفقة أو صرف عليها وبناتها، حتى أنه ضغط على ابنه عبد المجيد ليترك التعليم وحلمه في الحصول علي “العالمية” ليعمل معه بأجر زهيد.

وكما ذكرت، سطر خيري شلبي فكرة رواية “بغلة العرش” عام 1963، لينتهي منها في أواسط السبعينيات، أي قبل نحو 50 عاما من الآن، ولم توجد وقتها مبادرة “معا لحماية الأسرة المصرية” التى تنادى بحق أم عبد المجيد في ثروة زوجها الذي وقفت بجانبه وساعدته وحملت بدلا منه قدر العرقسوس علي صدرها الرهيف، فهي صاحبة الخير بعد المولى عز وجل، وهى التي سبقته الى السوق لتفرش الفرشة ووتتعامل مع الزبائن تجنبا لغلظته في التعامل، وبعد كل هذا العطاء والجهد يكون نصيبها الطرد والطلاق هي وأولادها بلا مأوى أو نفقة.

حكاية أم عبد المجيد ليست الوحيدة في بر مصر، فالروايات الحقيقية كثيرة وتغم النفس لو بحثنا عنها وحاولنا نشرها.

ومن حكاية عبد المجيد ووالده الثري البخيل الملقب بلقب “الحاج” وهو يبعد عن مضمونه مئات السنوات وآلاف الأميال، تطالعنا لعنة أخرى هي “التواصل الاجتماعي”، وهى ألعن من بخل أبو عبد المجيد وتطرفه، فقد هبط علينا رواد تطبيقات التواصل الاجتماعي بكم شائعات لا أول لها ولا آخر، بمجرد الإعلان الرئاسي عن تأسيس صندوق لرعاية الأسرة في مشروع القانون الجديد للأحوال الشخصية، وفرض وثيقة تأمين لمواجهة النفقات وتوفير مصادر التمويل ودخل لأسرة المطلقة في حال فشل الزيجة. والأهم في مشروع الأسرة الجديد هو البند الذي سيحمي أم عبد المجيد وكل من شابهها في حالتها، فتعديلات القانون تحفظ الذمة المالية لكل زوج وزوجة ونصيب كل منهما في الثروة المشتركة التي تكونت أثناء الزواج.

وبمجرد الإعلان عن صندوق الأسرة، لم يهدأ الشارع أو عالم التواصل الاجتماعي، فسرعان ما امتلأ العالم الافتراضي في مصر بشائعات لا حصر لها، وبلغت من الكذب والافتراء درجة يكاد يصدقها المرء غير العالم ببواطن الأمور أو نصوص التعديلات المقترحة بالقانون، حتى أن حالات الزواج زادت في الفترة الماضية تجنبا لفرض التأمين على الزواج وهي الفقرة التي طالها الكثير من المبالغة والشائعات علي “فيس بوك – انستجرام – تويتر”..وكان من بين الشائعات المغرضة أن التعديلات الجديدة ستضع عراقيل كثيرة أمام عملية الزواج، ودفع مبلغ إجباري كتأمين يبدأ من 25 ألف جنيه، في حين لو تريث عشاق السوشيال ميديا وتحروا الدقة قبل التلاسن وإطلاق الفتاوى المغرضة، لعلموا أو أدركوا أن المبلغ المقترح كتأمين يبدأ بألف جنيه فقط.

ولعلي هنا لا أمارس الفتوى أنا الآخر..فقد اقتربت من مؤسسي مبادرة “معا لحماية الأسرة المصرية” التي تأسست عام 2019، وكان هدفها الأساسي الدفاع عن حق أم المجيد، التي تشردت وغيرها في الشارع بلا مأوى، بعد سنوات كد وتعب وشقاء مع أزواجهن، ومن هنا ركزت المبادرة على ضرورة تضمين التعديلات الجديدة لقانون الأسرة بندا تحت اسم ” فقه الكد والسعاية”، حتى نجحت بمجهود مؤسسيها من الحصول علي موافقة الأزهر الشريف على تطبيق هذا الفقه..وهكذا نجحت المبادرة في مبتغاها، وهو عمل يستحق توجيه الشكر لكل من شارك فيه بدءا من الفكرة وحتى تنفيذها، ورغم مشقة العمل والمسعي للتعريف بأهداف المبادرة ومبادئها، لم يدخر مؤسسو “معا لحماية الأسرة المصرية” جهدا لتوصيلها إلى أكبر عدد من المصريين، سواء عن طريق عقد الندوات والمؤتمرات المختلفة خاصة في أوساط الشباب، أو المشاركة فى برامج تلفزيونية وكتابة المقالات المختلفة للتعريف بها.

ولعل اقتراح القيادة السياسية تأسيس صندوق لرعاية الأسرة ووثيقة تأمين لدعمها ماديا، يكون أمرا مهما وحيويا أو لنقل بمثابة قرار حياة للأسرة لمواجهة النفقات والتحديات ذات الصلة بمسائل الأحوال الشخصية، خاصة وأن الدولة لن تكف مكتوفة الأيدي، لأنها ستتوفر من جانبها المصادر التمويلية للصندوق..بهدف الحفاظ على الترابط الأسري ومستقبل الأجيال الجديدة. وثمة نقطة مهمة في التعديلات المرتقبة لقانون الأسرة، إذ يتضمن حق الزوجين في الحفاظ على الذمة المالية، ونصيب كل منهما في الثروة المشتركة التي حصلا عليها خلال فترة الزواج، بما يؤكد حق “الكد والسعاية” التي طالما طالبت مبادرة حماية الأسرة بتطبيقها في مصر حفاظا على مستقبل النواة الأهم في المجتمع .

ندرك يقينا، كم عاني المؤسسون طوال الفترة الماضية، ولكن الهدف الأسمى وهو حق الأسرة في معيشة مستقرة وآمنة، أزال كل همومهم ، ونكاد نهنئهم بنجاح مبتغاهم، ليعود الحق إلى مستحقيه، فالأسرة هى الهدف، وبالأسرة تحيى المجتمعات وتستقر وتتقدم للأمام.

زر الذهاب إلى الأعلى