محمد أمين المصري يكتب : السودان بعد الحرب!
حاولت وكالة الأبناء الفرنسية الخروج عن المألوف وهي تغطي أخبار الحرب في السودان بين قوات الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، وواضح أن مراسلي الوكالة في مواقع الحرب قد ملوا الكتابة عن تصريحات القيادات وأخبار القتل والدمار اليومية، فلجأوا إلى الحكايات الإنسانية، فالحرب غيرت حياة السودانيين وتبدلت مهن بأخرى، ومن أمثلة ذلك الأستاذ الجامعي الذي فر إلى مدينة مدني بولاية الجزيرة وتعد أكبر مراكز استقبال الفارين من العاصمة الخرطوم، فالحرب خلقت منه مبدعا في مهنة جديدة لم تكن تخطر على باله من قبل، فهو لاحظ عدم توافر (الصابون) في السوق واحتياج الجميع له فقرر صنعه..هذا الأستاذ الجامعي ليس وحده الذي أجبرته الحرب على تغيير المهنة بسبب الحرب الدائرة منذ منتصف أبريل الماضي وأجبرت نحو 4 ملايين شخص على النزوح من قراهم وبلدانهم إلى أماكن أخرى بحثا عن الآمان.
في نفس المخيم الذي يقيم فيه الأستاذ الجامعي ومعه آلاف آخرين لم يتقاضوا رواتبهم منذ مارس الماضي بسبب الحرب، أضطر مواطن آخر إلى بيع الطعام للزبائن في كشك صغير صنعه بنفسه، وتمكن مع شركائه من إعداد الأطعمة الشعبية التي يتناولها سكان العاصمة. وفي كشك آخر تجلس المعلمة التي كانت تطمح الحصول على درجة الدكتوراه، فكان البديل لها في المخيم بيع رقائق الخبز وانتهى بها المآل لبيع الأطعمة، فهي فقدت الأمل في الحياة واضطرت للعمل في السوق حتى تتكفل بأسرتها، هي ليست حزينة على بيع المأكولات ولكنها تلوم ممن أشعلوا الحرب التي ليس للشعب فيها ناقة ولا جمل، ثم تتعجب ممن يدعو الشباب إلى التطوع في صفوف الجيش للدفاع عن الوطن! ..”أي وطن ندافع عنه وهم الذين أجهضوا أحلامنا في العيش في ظل دولة مدنية وديمقراطية، ولكنهم أشعلوا الحرب من أجل مصالحهم ثم يطالبون شبابنا بالتطوع في الجيش!”.. تقول المعلمة اليائسة من الحياة بعدما فقدت الأمل في نيل درجة الدكتوراه والعيش في مخيم إيواء.
يبدو أن السلام قد أصبح بعيد المنال في السودان، وأن البلاد تتجه نحو التصعيد وليس خفض وتيرة الحرب ونيران المعارك ودوي المدافع والصواريخ وأسلحة الدمار، ويكفي الإطلاع على كلمة مارثا أكيا بوبي مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الإفريقية التي حذرت فيها من أن استمرار الحرب في السودان سيؤدي إلى تعاظم خطر التفكك، وازدياد احتمالات التدخل الأجنبي وتحلل السيادة.
ثلاثة مخاطر تحدثت عنها المسئولة الأممية: تفكك..تدخل أجنبي..تحلل السيادة، وكل تحذير يكفي على حدة لإسقاط أي دولة وتدميرها، فما بالنا بمخاطر ثلاثية تواجه دولة لم تكن بعيدة يوما ما عن خطر التفكك، إذ أصبح السودان شمالا وجنوبا، وربما يعلن إقليم دارفور الاستقلال عن السودان الذي يتعرض لمعاناة إنسانية صعبة ونزاعات عرقية لا تزال جراحها القديمة ماثلة بالأذهان.
قيادات الجيش والدعم السريع ليس لديهم الوقت ليقرؤوا أو يسمعوا عن الأستاذ الجامعي الذي أصبح صانعا للصابون والمعلمة التي اتجهت لبيع المأكولات في مخيم الإيواء وغيرهم الكثيرون الذي غيرت الحرب مسار حياتهم للأسوأ، ولكن يخرج أكبر مسئول سوداني هو الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ليعلن أن بلاده تواجه أكبر مؤامرة في تاريخها الحديث، ويستطرد: “مؤامرة تستهدف كيان وهوية وتراث ومصير الشعب السوداني”.
البرهان ترك مأساة شعبه ومعاناتهم اليومية مع النزوح والتهجير، واستغل حلول المناسبة الـ69 للقوات المسلحة ليعلن أن الجيش سيحقق النصر قريبا على المتمردين (قوات الدعم السريع) التي تحارب الجيش منذ أبريل الماضي. وبدلا من أن يفسر البرهان للشعب السوداني أسباب إطالة الحرب رغم التفوق النسبي لقوات الجيش في مواجهة (متمردي الدعم السريع)، كال البرهان الاتهامات لقائد المتمردين محمد حمدان دقلو (حميدتي) ووصفه بالخائن، المتمرد، المتعطش للسلطة، الذي يسعى لإقامة مملكته الخاصة على أنقاض وأشلاء البلاد.
وبعيدا عن الاتهامات والأوصاف والوعود، أعلن البرهان أن القوات المسلحة تقف مع خيارات (الشعب) للوصول إلى توافق على صيغة سياسية محكمة وعادلة تتفادى تجاوزات وأخطاء ما قبل اندلاع الحرب، وصولا إلى انتخابات حرة..وهنا مربط الفرس، فالمعروف أن المكون العسكري ( الجيش والدعم السريع) بمجلس السيادة هو الذي انقلب على الاتفاق الإطاري المؤسس للمجلس، رغم نفى البرهان أن يكون الجيش خطط للانقلاب على الاتفاق الإطاري. وقال قبل الحرب بشهر تقريبا :”القوات المسلحة لا تخطط للانقلاب على ما اتفقت عليه، بل تسعى إلى أن يتوافق السودانيون ويتحدوا لإخراج البلاد من وضعها الراهن، وهي ماضية في البحث عن الحلول التي يمكن أن تجمع الناس”. وشدد على أن “الجيش ليس ضد أحد، وقد وقّع على الاتفاق الإطاري على ألا يُقصي الآخرين، وأن يشمل النقاش القضايا المتفق حولها كل القوى السياسية عدا المؤتمر الوطني (حزب الرئيس المعزول عمر البشير 1989-2019)”. ودعا البرهان وقتها جميع الأطراف “للكف عن المضي بالعملية السياسية بمعزل عن بقية القوى السياسية”.
ولكن الاتفاق الإطاري تعرض للفشل في نهاية المطاف، والذي شاركت في مشاوراته الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد)، والرباعية المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات. فالاتفاق الذي استهدف التوصل إلى اتفاق سياسي نهائي وعادل بين جميع القوى السياسية والعسكرية تم إجهاضه لتخيب معه آمال السودانيين الذين رأوا فيه حلا لأزمة فرض الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 اكتوبر 2021إجراءات استثنائية منها حل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين واعتقال وزراء وسياسيين وإعلان حالة الطوارئ وإقالة الولاة (المحافظين). وقبل إجراءات البرهان الاستثنائية، بدأت بالسودان في 21 أغسطس 2019 مرحلة انتقالية كان مقررا أن تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم السلطة خلال المرحلة الانتقالية كل من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقعت مع الحكومة اتفاق سلام في جوبا عام 2020.
والمعروف أن البرهان لم يتحدث كثيرا منذ بدء الحرب في أبريل الماضي، وربما تكون هذه المرة الأولى الذي يتحدث فيها بكل هذه الاتهامات والوعود، ناهيك عن تفسيراته لانهيار الاتفاق الإطاري، وكذلك اتهامه لحميدتي باستغلال ثورة ديسمبر 2019 الشعبية لتمرير مشروعه لإقامة مملكته الخاصة على أنقاض السودان وشعبه وقواته المسلحة تحت زيف استعادة الديمقراطية والحكم الذاتي..في حين يتهم حميدتي خصمه ومنافسه عبد الفتاح البرهان بالاستئثار بالسلطة والانقضاض على الاتفاق الإطاري وإعادة الاستعانة بفلول الأخوان في الجيش وجهات أخرى.
وبين أنقاض الاتهامات المتبادلة بين البرهان (الجيش) وحميدتي (الدعم السريع)، تسعى القوى المدنية والسياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري للخروج بحلول لوقف الحرب عبر مبادرات سياسية تفضي لاستعادة الحكم المدني الانتقالي، علما بأن تحالف “الحرية والتغيير” وفصائل مسلحة وأحزاب سياسية وقعت الاتفاق الإطاري مع قادة الجش والدعم السريع في ديسمبر الماضي يقضي بانسحاب (الجيش والدعم السريع) من الحكم وتشكيل حكومة مدنية، وتحطم هذا الاتفاق مع مع اندلاع الحرب المشئومة، في واقعة تدعو إلى التساؤل عمن تسبب في إشعال الحرب المدمرة.وعمن يستفيد من إطالة أمدها ويرفض كافة الوساطات الإقليمية والدولية. وعمن له مصلحة في إجهاض اتفاق تولي المكون المدني الحكم في البلاد وعودة الجيش والدعم السريع إلى مواقعهم.
مشكلة السودان في الوقت الراهن هو ما سيحدث غدا.. ففي حالة انتهاء الحرب بين منتصر ومهزوم، فالطرف المنتصر سيشعر بالنشوى لانتصاره وبالتالي سيتشدد في حكمه، ومن بين السيناريوهات المتوقعة أن يستأثر الطرف المنتصر بالحكم منفردا وإقصاء خصمه العسكري وكل القوى المدنية، فالجيش لو انتصر على الدعم السريع سيلجأ لتكريس سلطته ويرفض العودة إلى ثكناته، الأمر الذي يعني عودة الإسلاميين للحكم مرة أخرى عن طريق الجيش في ظل ما يدور في الكواليس السودانية أن الجيش يتعاون مع الخبرات الإسلامية.
ولو انتصرت قوات الدعم السريع، سيشعر حميدتي بالنشوة نتيجة تفوقه على قوات الجيش وربما يسيطر على كل الوحدات العسكرية بما يؤهله أو يغريه بالسيطرة على الحكم وتوريثه لعائلته باعتبار أنه تحمل تكلفة الحرب وخسائرها البشرية والنفسية.
ثمة تساؤل أخير..من المؤكد أن السودانيين قد سئموا تصرفات الجيش والدعم السريع والحروب الدائرة بينهما لمصالح شخصية وليست قومية فالحرب دائرة بين قوتين عسكريتين وليس بين الجيش وعدو خارجي، وبالتالي على القوى المدنية الاستعداد ليوم تنتهي فيه الحرب وتكون مستعدة بأجندة سياسية شاملة لإدارة البلاد وكيفية احتواء الجيش والدعم السريع في قوة عسكرية واحدة تجنبا لانشقاق في المستقبل.
وكما أسلفنا، فقد أعلن البرهان قبل اندلاع الحرب أن القوات المسلحة تقف مع خيارات (الشعب) للوصول إلى توافق على صيغة سياسية محكمة وعادلة تتفادى تجاوزات وأخطاء ما قبل اندلاع الحرب، فهل يتذكر هذا الوعد أو هذا الإعلان في الوقت الراهن؟..بالطبع لا، فمجريات الحرب قد أنسته وعوده، كذلك لن يتذكر حميدتي تصريحاته السابقة عندما أعلن مرارا إنه على قوات الجيش العودة إلى ثكناتها وترك الحكم للمدنيين.
آفة السياسيين هي النسيان، خاصة لو كانت وعود عسلية للشعب. ويكفي عن القيادات لا تعلم ما يدور في قاع المجتمع أو مخيمات الإيواء وإلا علموا بحكايات الأستاذ الجامعي الذي غير مهنته إلى صانع صابون والمعلمة التي تركت رسالة الدكتوراه لتبيع الطعام، وغيرهم الكثير.