مقالات الرأى

مايسة السلكاوى تكتب: دولة المماليك 4 / 4

0:00

إنكسرت دولة المماليك أمام الغزو العثمانى لمصر 1517م ، إلا أن المماليك ظلوا يحتفظون بسيطرتهم على مصر نحو 300 سنة أخرى فى ظل الحكم العثمانى ، بالطبع وضع غريب لم يحدث من قبل على مدى التاريخ ، ولكن كان لهذا الوضع مسبباته .
مثلما كان “الغدر” سمة دولتا المماليك البحرية والبرجية ، كانت “الخيانة” السمة المميزة لحقبة المماليك الجديدة ، حيث قام خاير بك وهو من مماليك السلطان قايتباى وشغل منصب والى حلب أثناء حكم السلطان الغورى فقد تحالف مع سليم الأول فخان رفاقه من المماليك فى مرج دابق 1516م والتى قتل خلالها الغورى ، فكانت مكافأته حكم مصر لمدة خمس سنوات  وهى المرة الأولى والأخيرة التى يتولى فيها مملوكى الحكم خلال حكم العثمانيين !.
وكانت الخيانة الثانية بعد هزيمة المماليك فى الريدانية 1517م وأنتهت بشنق السلطان طومان باى على باب زويلة ، فر طومان باى هاربا إلى الأسكندرية بعد محاولة فاشلة لطرد العثمانيين من البلاد ،  فلجأ إلى أحد زعماء القبائل للإختباء لديه فأستضافه وأكرمة ثم وشى به لدى العثمانيين ،رغم أن طومان باى كان قد أنقذه من الموت .
وعن إعدام طومان باى آخر سلاطين المماليك قال المؤرخ المصرى ابن إياس :” فلما شنق وطلعت روحه صرخت الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف فقد كان شابا حسن الشكل وسنه حوالى 44 سنة وكان شجاعا بطلا تصدى لقتال بن عثمان وثبت وقت الحرب وحده بنفسه وكان ملكا حكيما قليل الأذى كثير الخير وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية 3 أشهر و14 يوما” .  أعتقد أنه السلطان المملوكى الأوحد الذى حزن عليه المصريون .
أنعم العثمانيون على المماليك بلقب بك أو أمير ،وبدأت سلطتهم تترسخ منذ قيامهم بقمع ثورات وعصيان الجنود الإنكشارية ضد والى مصر العثمانى مما زاد من نفوذ البكوات فى كثير من إدارات الدولة بما فيها الجيش والوظائف المالية وكان لهم قوة عسكرية لا يستهان بها فكانوا يديرون الدولة بالفعل حتى أصبح دور الوالى العثمانى صوريا ، وتوسعت الأسر المملوكية فى جلب المماليك وتدريبهم .
مع بدايات القرن الثامن عشر ، بدأت الإمبراطورية العثمانية تفقد قبضتها على مصر بسبب نزاعات بين عناصر الجيش والتمرد فى صفوف العسكريين والإضطرابات الداخلية تزامنا مع التدهور الإقتصادى الشديد بالإضافة إلى ما تواجهة من تهديدات من الإمبراطورية الروسية ، مما أدى ببكوات المماليك استعادة حكم مصر كأمر واقع ، فزادت ثرواتهم وأصبحت أسرهم بالغة الثراء يمتلكون مئات العبيد والجنود وتوسعوا فى حيازة الأراضى والقصور الفخمة وكان الوالى العثمانى مجرد رمز لا حول له ولا قوة . لدرجة أن على بك الكبير وكان المملوك الأقوى أجرى تغيرات كبيرة فى الإدارة المركزية وعمل على تفكيك الإنكشارية بل أنه قام بخلع إثنين من الولاه العثمانيين و ساعد الحكام الهاشميين فى الحجاز لإستعادة مكة المكرمة من الوهابيين وتعيين أحد المماليك كحاكم على الحجاز كما استولى على دمشق لمدة عام ، ونتيجة للخيانة أيضا قتلته المماليك . فخلفه محمد أبو الدهب وكان مملوكا عنده ويقال انه أطلق عليه هذا الإسم لتوزيعه الذهب بسخاء على أنصاره ،إلا أن صراع فصائل المماليك على السلطة أثر بالسلب على الوضع الإقتصادى للبلاد .
رغم زواج بعض المماليك من مصريات إلا أنهم ظلوا مبتعدين عن المصريين واستمرت التقاليد المملوكية هى المسيطرة على الحياة الإجتماعية وإمتزجت بها العادات العثمانية .
فى تلك الفترة ظهر مشروب القهوة وقد حرمه علماء الدين بالأستانة فى القرن السادس عشر ، لكن هذا المشروب إنتشر سريعا بالقاهرة لموافقة الصوفيين عليه لمعارضتهم أى أوامر صادرة من السلطة ،ومنذ تلك اللحظة عرفت القاهرة المقاهى وأطلق عليها ” القهوة” وهو المكان الذى تشرب فيه ،فانتشرت القهاوى فى القاهرة سريعا وزادت أعدادها وروادها ليقترب من رواد المساجد حتى بلغت نحو 1350 مقهى أى بمعدل مقهى لكل 200 شخص حينها ! ما اشبه اليوم بالبارحة !!
بالغ مراد بك وإبراهيم بك آخر حكام المماليك فى الفترة العثمانية نهاية القرن الثامن عشر فى زيادة الضرائب والإمتناع عن إرسالها إلى الأستانة ، كما بالغوا فى العنف والقسوة وأنشأ مراد بك “ديوان البدعة” لتحصيل الضرائب وتولى “عثمان خجا ” رئاسته وكان حاكم رشيد وبالغ فى فرض الضرائب على الغلال والمحاصيل الزراعية التى يتم تصديرها من ميناء رشيد وتجاوز الظلم على الأهالى حتى حقق ثروة هائلة لنفسه ، وعند دخول الفرنسيين رشيد لاذ خجا وجنوده بالفرار ،فاندهش الجنرال الفرنسى “دوجا” حين رآهم يفرون وازداد إندهاشه عندما رحب به أهل رشيد على إعتبار أنه المنقذ وأرسله الله لخلاصهم من ظلم المماليك . تم القاء القبض على عثمان خوجا وأركبوه حمارا بالمقلوب وعلقوا فى عنقه أجراسا ( وهو ما يعرف بالتجريس ) وسمحوا للناس بالبصق عليه فى وجهه وتلطيخه بالقازورات وتم شنقه على باب منزله . 
وهنا وصف “على الجارم” الشعب الثائر قائلا : الشعوب تخضع للقوة الغاشمة وتخشاها ثم تعتاد عليها وقد تتملقها أحيانا ، وقد تستعذب عذابها أحيانا ،ولكنها لا تنسى ظلما ولا تفر منه إساءة ، وكأن الشعب المقهور نفسان ،   نفس تجامل وتصانع ونفس تدون وتسجل حتى إذا ضعفت القوة التى تكبته قامت ووثبت وثبة الذئاب الجائعة ، والجماهير مخادعة تحمل اليوم على الأعناق من ستضرب به الأرض غدا .
وكانت نهاية أسوأ عصر فى تاريخ مصر بمذبحة القلعة وبها قضى محمد على باشا على نحو 470 من زعماء المماليك سنة 1811م والقضاء عليهم تباعا فمنهم من هرب ومنهم من اندمج فى الأهالى .
 

زر الذهاب إلى الأعلى