مقالات الرأى

رشدى الدقن يكتب: الحرام !!

0:00

على أعتاب نهاية متعة متكررة كل اربع سنوات ،يجلس أحمد على مقهى يحتسى قهوتة المفضلة “سادة بن غامق”.. يتابع بشغف حقيقى مبارة مهمة فى كأس العالم بالدوحة الذى شارف على النهاية .
لم يتخيل أحمد صاحب الثلاثين عاما أن قهوته المفضلة كانت حراما .. والمقهى الذى يجلس عليه كان محرما هو الآخر ..ولعبة كره القدم التى يعشفها كانت أيضا حراما .. وتم تجريم من يلعبها عدة مرات وذهبت بالبعض إلى السجن .
لم يفكر “أحمد ” للحظة واحدة وهو يستمتع برشفة آخر قطرة فى فنجانه ..أن مشروبه ثار حوله الكثير من الجدل الفقهى العنيف بين علماء الدين لثلاثة قرون من الزمان .. «فالقهوة» أفتى بعض فقهاء الدين بحرمتها حرمة قطعية، وقالوا مستحلها كافر حلال الدم، ومنهم من قال بحلها، بل أطلق عليها اسم«خمرة الصالحين» نكاية فى من يحرمون شربها .
قبل أن أحكى لكم حكاية تحريم القهوة والعودة فى الفتوى ثم التحريم والعودة مرة أخرى ..دعونى أقول لكم كيف دخلت القهوة مصر .
“القهوة ” اكتشفها رجل صوفي من اليمن هو علي بن عمر بن إبراهيم الشاذلي في العام 828 للهجرة، وقطف قشرة البن وتناولها ليسهر ذاكرًا لله تعالى…وانتشرت بين مريدي الطريقة الشاذلية إحدى الطرق الصوفية تدريجيًا، وحالما وصلت «الشاذلية» إلى مكة المكرمة تم تحريمها حيث قيل بأنها «خمرة مًسكرة»، ما استدعى الأمر إلى جلد بائعها وطابخها وشاربها.
وتعاطى بعض الناس القهوة في أقبية البيوت متخفين عن المحتسبين آنذاك، وروي فيما مضى أنه كانت هنالك مقاهٍ تبدو كالخمارات ويجتمع عليها رجال ونساء مصحوبين بالدف والرباب وغير ذلك من الآلات الموسيقية، ما قاد مجموعة من العلماء إلى تحريمها، ويوزعون العيون لاصطياد المرتادين من محبي «القهوة الشاذلية».
ودخلت القهوة مصر من بلاد اليمن عن طريق البحر إلى السويس ثم إلى القاهرة، وذلك في القرن السادس عشر ميلادي، حين لاحظ طلبة الأزهر المصريون أن زملائهم المغتربين من اليمن يتناولون مشروبا في أثناء الليل للمذاكرة، وبدأوا في تذوقها واعتمدوا عليها في المذاكرة، عوناً لهم على السهر، وبدأ الأمر ينتشر في مصر شيئا فشيئا حتى وصلت إلى البيوت والمقاهي. وكانت القهوة تدخل مصر من بلاد اليمن عن طريق البحر إلى السويس ثم إلى القاهرة.
وانقسم المجتمع المصري حولها حينذاك بين مؤيد ومعارض، ولم يتقبلها إلا بعد جدال عنيف بين العلماء…جاء أبرزه عندما أفتى الشيخ أحمد بن عبد الحق السنباطى وهو أول من تولى مشيخة الأزهر فى عهد الاحتلال العثمانى سنة 945، بأأن القهوة مسكرة تغيب العقل وشربها حرام ..وقاد الحملة ضد القهوة بشراسة…وتعصب جماعة من العوام لما سمعوا فتوى الشيخ السنباطي، وخرجوا إلى بيوت القهوة فكسروا أوانيها.. وارسل تجار البن وفدًا منهم إلى الشيخ السنباطى يرجونه العدول عن الفتوى حتى تخمد الفتنة فرفض قائلًا: مادام القهوة تؤثر فى العقل فهى حرام .
وقامت معركة كبيرة بين مؤيدى السنباطى والتجار ومعهم أصحاب المقاهي، وقتل واحد من مؤيدى التجار وجرح آخرون، ومات منهم واحد آخر، فهرب الشيخ السنباطى ومن معه داخل المسجد، فحاصر التجار وأهالى القتلى المسجد وأقاموا سرادقًا ليقيهم البرد، وقاموا بصنع القهوة وتوزيعهاساخنة بدون سكر « سادة» ..ومن يومها سار تقديم القهوة السادة فى سرادقات العزاء تقليدا ومن العادات المصرية الأصيلة .
ووئدًا للفتنة أحال السلطان الأمر لقاضى القضاة محمـد بن إلياس الحنفي، وبعد مناقشات أفتى بعدم تحريم القهوة.. وتولى حكم مصر خسرو باشا، وفى زمنه كثر شرب القهوة والقهاوى … لكن بعد ربع قرن جاء فرمان سلطانى مفاجئ إلى القاهرة فى مطلع شعبان 968 هـ يقضى بمنع المنكرات والمسكرات والمحرمات ويغلق أبواب الحانات والخانات ومنع استعمال القهوة،والتجاهر بشربها وهدم كوانينها وكسر أوانيها..ونفذ العسس الأمر السلطانى بقسوة.
وتكرر الأمر نفسه فى مكة المكرمة ..وقتها كانت مصر متحكمة تمامًا في طرق الذهاب والعودة إلى رحلة الحج، وفي أثناء عودة الأمير المملوطى “خاير بك” حاكم مكة إلى القاهرة في عهد السلطان قنصوة الغوري، شاهد جمعًا من الناس قد انتحوا جانبًا من المسجد الحرام مستغرقين في كؤوس الشراب، وما إن شاهدوه حتى قاموا بإطفاء الفوانيس مما زاد من شكوكه.
بدأ الأمير في السؤال عن شرابهم أجيب بأنها القهوة التي جلبت حبوبها من اليمن والتي انتشر تناولها في مكة المكرمة في أماكن يرتادها الرجال وأحيانًا النساء، وحينها قرر خاير بك سؤال كبار فقهاء مكة، فافتوه بأن شرب القهوة، فإنه حرام .
المثير أن خاير بك هذا كان أيضا أول حاكم لمصر فى عصر الإحتلال العثمانى ويسجل التاريخ أنه من خان طومان باى فى معركة الريدانية وسلم القاهرة للمحتل وظل المصريون يطلقون عليه خاين بك حتى مات وعاقبوه بعدم الصلاة فى المسجد الذى بناه فى القاهرة ..ومازال المصريون عند موقفهم من الصلاة فى هذا المسجد حتى اليوم فلاتقام فيه صلاة .
المثير أيضا أن القهوة التى تم تحريمها وقطع رأس من يشربها حماية لشرع اللـه فى زمن قديم ، أصبحت هى المشروب الرسمى وواجب الضيافة فى مجالس الملوك والأمراء، و المشروب الوحيد المسموح به غير ماء زمزم فى إفطارالصائمين بالكعبة المشرفة والمسجد النبوى .. فمن حالفه الحظ بزيارة البيت الحرام والمسجد النبوى فى شهر رمضان، وحضر تناول طعام الإفطار داخل جنباتهما، حيث تتكفل به المملكة السعودية فمن غير المسموح جلب الأطعمة والأشربة داخل الحرمين سيعيش لحظات سعادة غامرة وبهجة للنفوس عامرة، يحمله فيها عبق روائح ذكية عندما تفوح رائحة القهوة العربية الممزوجة بكثير من حبات الهيل « الحبهان»، بعطرها الساحر العبقرى فى هواء المسجدين .
بل إن القهوة العربية هى المشروب الوحيد الذى يسمح للزائر بإصطحابه داخل الحرمين فى أى وقت من العام .. ناهيك عن أن القهوة هى مشروب الضيافة الأول فى عموم بلاد العرب، وترى الفناجين والدلة أدوات صناعة وشرب القهوة فى كثير من لوحات الفن التشكيلى وتماثيل الميادين كرمز سياحى وطنى يشهد على الأصالة والعراقة .
نعود إلى أحمد الجالس بهدوء فى أحد مقاهى القاهرة … انتهى من قهوته ومازال يتابع بشغف وتوتر ونشوة وحب .. فريقه المفضل فى كأس العالم ..ولم يدر بخلده أن اللعبة مفسها كانت حراما ومجرمة .
لم يعلم أبدأ أن عمدة لندن أصدر قرارا يحظر لعب كرة القدم عام 1314، واعتُبر من يخالف هذا القرار مطلوبا للعدالة، واضعا نفسه أمام احتمالات دخول السجن. ..وصدر مرسوم ملكي من الملك إدوارد الثاني يحظر لعب كرة القدم في شوارع لندن، وجاء فيه: “بسبب الضوضاء الكبيرة في المدينة، التي يسببها الاحتشاد حول تلك الكرات الكبيرة، والتي قد تخرج منها الشياطين لا قدّر الرب، فقد قررنا ومنعنا، باسم الملك، هذه اللعبة. ويعرض نفسه للسجن من يمارسها مستقبلا في هذه المدينة”.[1] وبعد ذلك المرسوم بأعوام قليلة بدأت حرب الـ 100 عام بين إنجلترا وفرنسا، وتزامن معه تفشي الطاعون ..و خسر الجيش الإنجليزي أعدادا كبيرة من رماة الأسهم. ووجد البرلمان الإنجليزي حينها أن كرة القدم تمثل أحد أشكال الإلهاء التي تصرف الناس عن التدرب على القوس والأسهم، وبإيعاز منهم صدر مرسوم ملكيّ يقول فيه الملك إدوارد الثالث إن على كل رجل صحيح الجسد أن يتدرب كي يكون راميا، وأن يبتعد عن لعب كرة القدم التي تؤخره عن واجبه هذا نحو بلاده. وأصبحت ممارسة كرة القدم جريمة في إنجلترا كلها. ولم يتوقف الأمر على الملك إدوارد، بل وافق على استمرار القرار عدد ممن خلفوه ملوكا لإنجلترا.
وإضافة إلى ذلك فقد رأى الملك حينها أن كرة القدم أصبحت بمنزلة حرب مستمرة بين القرى وبعضها، إذ كانت كل قرية تجد في كرة القدم مناسبة للقتال مع جيرانها. وتسببت اللعبة في العديد من الإصابات القاتلة أو الموت في بعض الأحيان، خاصة وأن شكل كرة القدم حينها كان مختلفا عن أيامنا الحالية؛ فرغم وجود كرة ومرميين فإن حجم الملعب كان يمكن أن يمتد لمئات الأمتار، والمشاركون في المباراة قد يبلغون المئات، وكل فريق يريد أن يسكن الكرة في مرمى الفريق الآخر، أو بالأحرى يريد أن يبلغ مرمى القرية الأخرى، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى اقتتال بين هؤلاء المئات، وفي بعض الأحيان قد يتحمس بعض الشباب من إحدى القريتين ويلقون بمثانة خنزير على نوافذ كنيسة القرية المجاورة.
وفي أثناء حرب الـ 100 عام نفسها ، وعلى خُطى ملك إنجلترا، أصدر الملك الفرنسي تشارل الخامس مرسوما بمنع كرة القدم، ولكن الكنيسة الفرنسية سبقت الإنجليزية في معاداة كرة القدم!..ففي منتصف القرن الخامس عشر قامت الكنيسة الفرنسية بفرض غرامات على بعض لاعبي كرة القدم، ووصفتها بالقاتلة وقالت : “إن هذه اللعبة الخطيرة والخبيثة يجب أن تُمنع، لأنها، تحت ستار المرح، تراكم في القلوب مشاعر الكراهية والعداء وتراكم الأحقاد”.
وفي إنجلترا رأتها الكنيسة علامة من علامات العصر البائد تجب محاربتها..وقالوا أن تلك اللعبة، تثير “الغضب الوحشي والعنف المتطرف” بين الناس. ..وأنها من النشاطات الشيطانية في العصر الماضي تسلبنا ورعنا”.
أطلق الحكم صافرة النهاية ..وغادر أحمد المقهى منتشيا وسعيدا بفوز فريقه .

زر الذهاب إلى الأعلى