رجب البنا يكتب : المثقفون وبناء الوعى
ليس المثقف هو من جمع لنفسه أكداسا من المعلومات والمعارف العلمية والفلسفية، المثقف هو صاحب الموقف المنحاز لمصالح بلده وشعبه، هو الذى لا يقتصر اهتمامه على دائرة مصلحته الخاصة، ولكنه الذى يتسع بنظرته واهتمامه وجهده إلى دائرة المصلحة العامة، ويجد معنى لحياته فى الالتزام بالتفكير والعمل من أجل تقدم وخدمة بلده وحمايتها، ويدرك بأنه لا يستحق أن يعيش من عاش لنفسه فقط كما كان يقول الزعيم الوطنى مصطفى كامل.
المثقفون فئة مميزة بعقولهم وفكرهم وهذا يلقى عليهم مسئولية كبيرة تجاه مجتمعهم، وهناك فرق بين المثقف الحقيقى والمثقف الزائف، المثقف الحقيقى هو الذى يعيش مع الناس ويوظف علمه وفكره لتقدم بلده وإصلاح مجتمعه، وليس همه استغلال علمه ومهارته فقط لجمع الثروة أو الوصول إلى منصب أو مكانة مميزة، ولكن همه أيضا خدمة بلده، والمثقفون الحقيقيون لهم تأثير كبير مع أنهم لا يملكون سلطة ولا يسعون إلى السلطة، المثقف الحقيقى من لا يركن إلى السلبية والوقوف موقف المتفرج واللامبالاة، ويدرك أن عليه أن يكون عنصرا إيجابيا فعّالا بقدر علمه وطاقته، وهو الذى يشارك فى تغيير الوعى، وكشف الزيف والمغالطة فيما يقال وما ينشر ويذاع فى الإعلام المُعادى ووسائل التواصل الاجتماعى بأيدٍ لا تريد لبلدنا خيرا.
مشكلة المثقفين – كما يقول المفكر الكبير هشام شرابى – إن بعضهم بلا موقف واضح، وليس لهم دور وطنى ملموس، مع أنهم يدركون – بحُكم ثقافتهم – أن المجتمعات إذا لم تتطور تموت، وهذا هو قانون الحياة، الحياة فى حركة دائمة، وتطور مستمر، والفارق بين شعب وشعب أن هذا تجمد عند مرحلة معينة ويعيش فى الحاضر ويريد المستقبل كما كان عليه الحال فى الماضى، والآخر ظل فى حركة مستمرة وأضاف إلى العلم وإلى الفكر وإلى الحضارة، هذا مجتمع خامل، وهذا مجتمع متسارع الخطى، والنموذج لذلك ما حدث فى أوروبا فقد تكونت حضارتها الحديثة بالفكر الذى قاد به المثقفون عملية التغيير والتنوير.. فولتير ومونتسكيو وديكارت وكانط ونيوتن وغيرهم وغيرهم من صُنّاع الحضارة الحديثة الذين قادوا مجتمعاتهم بالثورة الصناعية والعلمية والفكرية والثورة الديمقراطية والاجتماعية، الذين قادوا بلادهم نحو التغيير الشامل وإلى الوعى بخطاب تنويرى.
دور المثقفين المساهمة بقوة فى مساعدة مجتمعهم على الانتقال من العلاقات الاجتماعية القائمة على الطائفية والعصبية والعلاقات القبلية، والعمل على تغيير القيم السلبية التى تعطل تقدم المجتمعات مثل قمع الحريات، وتحقير المرأة، وعدم احترام القانون، وغرس قيم جديدة، مثل إتقان العمل، والتمسك بالعلم والعقل، والالتزام بالقانون حتى بدون الرقابة والمحاسبة، واحترام حقوق الغير، وعدم استباحة المال العام، ورفض استخدام العنف، والأهم من ذلك تعميق الفهم الصحيح للدين وكشف المتلاعبين بالدين وبعقول الناس وإقناعهم بمفاهيم ليست من الدين على أنها هى الدين الصحيح.
والحديث عن الوعى ليس جديدًا فقد كان دور رواد النهضة الفكرية والوطنية منذ القرن التاسع عشر موجه لتطوير المجتمع وبناء الوعى، ابتداء من رفاعة الطهطاوى بدعوته إلى تعليم البنات، وقاسم أمين بدعوته إلى إنصاف المرأة واحترام إنسانيتها، ومحمد عبده الذى كانت قضيته بناء الوعى الدينى لصالح المجتمع وإقناع الناس بأن الإسلام دين يدعو إلى العلم ويحترم العقل ويرفض الجمود كما يرفض الخرافة، وفى اتجاه بناء الوعى كانت كتابات بيرم التونسى ومن تبعه فى نقد ما فى المجتمع من سلبيات ونقائص أخلاقية.
الوعى هو الوعى السياسى بإدراك الظروف الخارجية والداخلية المحيطة بالبلد، والتصدى للحرب النفسية التى لم تتوقف منذ بدء التحرك فى اتجاه التخلص من التخلف وبناء وطن جديد، وإقامة مؤسسات حضارية لخدمة المواطن وتحديث التكنولوجيا، الوعى هو غرس قيم التقدم: الصدق، الإتقان، حب المعرفة، النظافة الشخصية، والنظافة فى كل مكان وليس فى البيت فقط، احترام المرأة، التكافل الاجتماعى، التسامح.. الحرص على القيم الإيجابية الحضارية هو مفتاح التقدم، وبدونها أو بدون شىء منها يظل المجتمع متخلفا كليا أو جزئيا.
أهمية الوعى فى أن المواطن يدرك أن بناء وتقدم وطنه لا يمكن تحقيقهما إلا بجهود أبنائه وتضحياتهم وليس بقوة من الخارج، فليس هناك من يستفيد من رخاء البلد وأمنه واستقراره إلا أبناء البلد أنفسهم، والمثل العربى يقول: «ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك».
ومن أهم ما نحتاجه لبناء الوعى هو وضع المرأة فى مكانها الصحيح بما يحترم إنسانيتها ويسهم فى إعطائها حقها فى التعليم والعمل والمشاركة السياسية والاجتماعية، فلا يمكن تقدم مجتمع ونصفه مستبعد يعانى من الظلم والقهر والتخلف، ومن هنا يلزمنا نشر الوعى بأهمية ما تحقق لإنصاف المرأة فى مجتمعنا لكى يتهيأ المجتمع للوضع الجديد الذى ستكون عليه البلد مع إتمام عمليات البناء والإصلاح التى تجرى فى كل مكان ليلا ونهارا، لا يمكن أن يتقدم مجتمع ونصفه ظالم ونصفه الآخر مظلوم، والظلم ظلمات فى الدنيا والآخرة، يجب تعميق الوعى بأن تحرير المرأة هو مفتاح تحرير المجتمع، وأنها ليست قضية تخص المرأة وحدها بل هى قضية سياسية واجتماعية وإنسانية ترتبط بحركة المجتمع نحو التقدم أو نحو التخلف.
عند وقوع ألمانيا فى أزمة مصيرية قريبة من الأزمة التى يعيشها العالم العربى اليوم توجه المفكر الألمانى الشهير كارل ياسبرز إلى الشعب بدعوة كان لها صدى كبير فى تجاوز المحنة.. قال: إن حاجتنا اليوم أن نحاور بعضنا البعض وأن يسمع كل منا الآخر، وألا نكتفى بإبداء رأينا فقط بل أن نفكر فيما يقوله العقل، نحن بحاجة إلى أن نتعلم أن الوصول إلى الرأى الصائب هو نتيجة اختلاف الآراء والوصول إلى آراء جديدة.. وعلينا أن نركز على ما نتفق عليه ويحقق مصالحنا جميعا ولا نركز على ما نختلف عليه، وكانت فلسفة كارل ياسبرز بداية بناء وعى جديد ساهم فى قيام ألمانيا من كبوتها.
الوعى هو طريقنا للخلاص من التخلف والانغلاق والجمود الحضارى، والمثقفون هم قادة التنوير وبناء الوعى، وعليهم تحمل مسئوليتهم دون انتظار دعوة، ودون انتظار جزاء شخصى، فالجزاء هو تقدم الوطن وهذا هو أعظم جزاء لنا جميعا.