د. جمال الشاعر يكتب : سيادتك جرامشى ؟
حكى أحدهم هذه الحكاية الطريفة ..
كان الطبيب النفسي (دال لاريسون) .. يتوقف بين حين وآخر وهو يتريض صباحا ليطوح ببعض العملات المعدنية في الهواء خلف ظهره .. سأله صديقه لماذا تفعل ذلك ؟ ..
ضحك وروى له قصة الدراسة التي أجراها بعض الباحثين في علم النفس .
لاحظوا أن الجميع بلا استثناء تقريبا يتحسسون جهاز التليفون العمومى بعد الانتهاء من المكالمة بحثا عن عملات نقدية متبقية ... فقام الباحثون بتوزيع بعض العملات الفضية بطريقة عشوائية في الجيوب الخاصة بإعادة العملة في عدد من أجهزة الهاتف المتجاورة ..
يظن الناس أن الجهاز قد أنزلها بطريق الخطأ، فيأخذونها في سعادة غامرة في نفس الوقت قاموا بتعيين امرأة لتقوم بدور تمثيلي محدد، وهو أن تعبر الطريق الممتد أمام أجهزة الهاتف وهى تحمل حقيبة ضخمة من الكتب وتتظاهر بالتعثر المفاجئ بحيث تقع الكتب منها على الأرض.. هنا بالطبع نجد المارة يهرعون لمساعدتها في جمع الكتب المتناثرة .. تم تكرار نفس المشهد عدة مرات على فترات متباعدة أثناء اليوم
. أما النتيجة الإحصائية المدهشة التي توصل إليها الباحثون فهى أن من وجدوا العملات في الهاتف وأخذتهم نخوة المساعدة كانوا أربعة أضعاف الأشخاص الآخرين..
وأننا عندما نمر بخبرة مبهجة نميل عادة إلى العطاء والمبادرة إلى مساعدة الآخرين عن طيب خاطر
الدرس المستفاد من هذه القصة هو أنك لو تصرفت بمنطق الدكاترة النفسيين الذين يملأهم إحساس عظيم بالمسئولية الاجتماعية والإنسانية وروح المبادرة
.. فهذا يعنى أنك إنسان جرامشى .. أو بمعنى أدق مثقف عضوى كما يقول الفيلسوف الإيطالى أنطونيو جرامشى .. هل تريد توضيحا ؟ .. استمع إلى وجهة نظره ..
الثقافة هى ممارسة الفكر واعتياد ربط الأسباب والنتائج
وتطبيق ذلك على كل ماحولك من أجل توفير جودة الحياة لك وللبشر
.. المثقفون إذن يشكلون الاسمنت العضوي الذي يربط البنية الاجتماعية بالبنية الفوقية ويتيح تكوين «كتلة تاريخية» .. المثقف ليس هو ذلك الشخص الذى يرتدى نظارة سميكة ويعيش فى برج عاجى وينظر إلى الواقع باشمئزاز …المثقف فى نظره هو الإصلاحى الحيوى المساهم فى تغيير الأمور إلى الأفضل .. هذا التوصيف
ينطبق على المصرى الرائع على مبارك .. كان مثقفا عضويا
لا مثيل له .. طور التعليم والزراعة والجيش .. ومثله طه حسين طور التعليم وطبق المجانية واخترع جامعات مثل جامعة عين شمس .. عندنا أيضا ثروت عكاشة الرائع الذى شيد البنية الثقافية المصرية فكانت لدينا أكاديمية للفنون
وقصور للثقافة ونهضة إبداعية كبرى .… لا تكتف إذن فقط بدور الناقد والمحتج والمعترض
حاول أن تفعل شيئا ما .. د. مصطفى محمود كان يقول لصديقه الموسيقار عبد الوهاب ، لابد أن نترك أثرا مفيدا للناس .. الأدب والفن رائعان .. ولكنهما لا يكفيان .. الناس تحتاج إلى المساعدة ويد العون .. وهذا هو ماجعله ينشئ جمعيته الخيرية والتى أقامت الجامع والمستشفى وقدمت الخدمات الأهلية للآلاف ومازالت .. انظر أيضا إلى رواد
التنوير الشيخ محمد عبده .. قاسم أمين .. رفاعة الطهطاوى .. طلعت حرب.. عبدالرحمن الكواكبي .. إنهم طراز رفيع من المثقف التطبيقى وليس المثقف النظرى
.. لاشك أن التحديات حاليا أصبحت أكبر وأخطر أمام النخب ولكنهم يستطيعون ، فالنخبة هى الجماعة الأكثر تأثيرا ونفوذا .. فكرا وقوة ومالا وإبداعا رجال سياسة ورجال دين ومثقفون ومبدعون واقتصاديون وعلماء فيزيائيون
.. تعالوا نتأمل معا أخطر أمراض “بعض النخب” عندنا
.. الأنوية .. افتقاد الإطر المؤسسية .. القابلية للتهميش ..التوهج والانطفاء سريعا ، الاستقطاب الغربى والاستقطاب الأصولى ..الانكفاء على الذات ..الخوف من الاشتباك الفكرى محليا وعالميا .. إعادة انتاج الماضى وصعوبة التكيف مع الثورة الرقمية
.. غياب مبدأ المجايلة وتلاقح الأجيال .. التحليق بعيدا عن الواقع .. عقدة الخواجة
.. تكتيفة الفصحى وسيطرة العامية على الجماهير .. يقول الخبراء .. المثقف لم تعد مهمته نقل المعرفة للآخرين وإنما مساعدتهم على فهم مايحيط بهم .. المفهومية دونما أسف شديد اختطفها فلاسفة الأسفلت ودراويش أغانى المهرجانات ..
ثمة خطأ ما .. لماذا لم تنجح النخبة المصرية حتى الآن فى صياغة عقد اجتماعى جديد عندنا مثلما فعلها .. لوك وهوبز وروسو فى اوربا !؟
نقلاً عن صحيفة الاهرام