مقالات الرأى

د.أمانى فاروق تكتب: (نوستاليجيا) جسر الماضي لغد أفضل

0:00

في عالمٍ تتسارع فيه الخطى نحو المستقبل، يتوق الإنسان إلى تلك اللحظات التي شكلت أسس حياته، لحظات اختزنتها ذاكرته في طياتها العميقة، تُسمى بـ “النوستاليجيا” أو “الحنين إلى الماضي” ، هذا الشعور الذي يربطنا بأيام خلت، لا ينبع فقط من رغبة في استرجاع الذكريات الجميلة، بل هو استعادة لهوية ولثقافة شكلت حياتنا ومجتمعنا، وجعلتنا ما نحن عليه اليوم.
فعندما نستمع إلى أغنية قديمة، أو نشاهد فيلمًا كبرنا معه، نجد أنفسنا نغوص في بحر من الذكريات ، ذكريات تشع دفئًا وطمأنينة في قلوبنا.
إن هذا الحنين إلى الماضي ليس مجرد مشاعر عابرة، بل هو وسيلة لربط حاضرنا بماضينا، وللتأمل في تلك القيم والمبادئ التي شكلت نسيج مجتمعنا ، لكن هذا الحنين لا يجب أن يكون فقط وسيلة للهروب من واقع معقد، بل يمكن أن يكون أداة لإعادة إحياء تلك القيم والمبادئ التي جعلت من مجتمعنا العربي نموذجًا للتماسك والترابط. إن استرجاع تلك الذكريات يعيد لنا الوعي بقيمنا العريقة، ويذكرنا بأهمية الحفاظ على هويتنا في ظل تغيرات العصر.
وفي ظل التطور التكنولوجي الهائل، أصبح من السهل استرجاع الماضي والتفاعل معه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت حاضنة للذكريات ، نرى اليوم كيف تنتشر صفحات ومجموعات على الإنترنت تعيد نشر الصور القديمة، والأغاني التي تذكرنا بأيام الطفولة والشباب، هذا الانتشار السريع للذكريات يؤكد أن الحنين إلى الماضي ليس مجرد ظاهرة فردية، بل هو حالة جماعية تعيشها الشعوب ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن نحافظ على هذه الذكريات والقيم وسط هذا الانفتاح على العالم؟
إن التحدي الأكبر يكمن في كيفية تحقيق التوازن بين الاستفادة من التطور التكنولوجي وبين الحفاظ على هويتنا وقيمنا المجتمعية.
ولكن مع تزايد التأثيرات الغربية على مجتمعاتنا العربية، نرى تغيرات جذرية في القيم والسلوكيات، خاصة بين الشباب والمراهقين والأطفال أيضا، هذا الجيل الذي يتعرض لموجات من الثقافات المختلفة عبر وسائل الإعلام، يحتاج إلى أن يدرك أن قوة المجتمع لا تأتي من تبني القيم الغربية بشكل أعمى، بل من العودة إلى تلك القيم الأصيلة التي شكلت حضارتنا، والحنين إلى الماضي هنا يأخذ دورًا أكبر فهو ليس مجرد استرجاع للذكريات، بل هو دعوة صريحة للشباب للعودة إلى تلك القيم المجتمعية الإيجابية التي بنيت عليها مجتمعاتنا.
إن القيم العربية والإسلامية ليست مجرد إرث ثقافي، بل هي أساس لبناء مجتمع قوي ومتماسك، مجتمع قادر على مواجهة تحديات العصر دون أن يفقد هويته، فالتحضر والرقي الحقيقيين لا يأتيان من مجرد اللحاق بركب الغرب، بل من التمسك بالجذور التي صنعت تاريخنا، ومن هنا وجبت ضرورة توعية الشباب بالمخاطر التي تحيط بهم، تلك التي تأتي من محاولات زرع قيم غريبة تهدف إلى تدمير هويتهم وثقافتهم عبر القوة الناعمة والتي أصبحت الآن الأخطر والأقوي من تلك الحروب المسلحة التقليدية.
إن استرجاع تلك القيم والمبادئ ليست مجرد واجب، بل هي مسؤولية تقع على عاتق كل فرد في المجتمع. فنحن بحاجة إلى جيل واعٍ، قادر على أن يبني مستقبله بناءً على قيمه، وأن يتصدى لأي محاولات تهدف إلى تشويه هويته.
أما إذا نظرنا إلى الحنين إلى الماضي من زاوية مجتمعية، نجد أنه ليس فقط ارتباطًا عاطفيًا بذكريات قديمة، بل هو فرصة لإعادة بناء المجتمع على أسس متينة ، ففي الماضي، كانت قيم التعاون والتكافل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. هذه القيم يمكن أن تكون حجر الأساس لبناء مجتمع عربي متحضر وراقي، كما كان في السابق، فالمجتمع الذي يتذكر ماضيه ويتعلم منه هو مجتمع قادر على التقدم بثبات نحو المستقبل. وعندما نعود إلى تلك القيم والمبادئ التي سادت في مجتمعاتنا القديمة، فإننا نمنح أنفسنا فرصة لبناء مستقبل يتناغم فيه التقدم مع الأصالة.
إن استرجاع هذه القيم ليس ترفًا، بل هو ضرورة لبناء مجتمع قادر على مواجهة التحديات الحديثة دون أن يفقد هويته.
لذا فإنه يمكننى القول إن الحنين إلى الماضي هو أكثر من مجرد استرجاع لذكريات جميلة ، إنه جسر يربط بين الماضي والحاضر، بين ما كنا وما نحن عليه الآن. بين هذين الزمنين تكمن مسؤولية كبيرة، تتمثل في الحفاظ على تراثنا وهويتنا، وتوجيه أجيالنا القادمة نحو مستقبل أفضل.بينما نعيش في عالم يتغير بسرعة، يجب علينا أن نتذكر دائمًا أن القوة الحقيقية لا تأتي فقط من التقدم المادي، بل من التمسك بالقيم والمبادئ التي شكلت هويتنا. وكما تزهر الشجرة بفضل جذورها، يزهر المجتمع بفضل قيمه ومبادئه المتوارثة، مع التأكيد أن العودة إلى الماضي ليست عودة إلى الوراء، بل هي خطوة نحو بناء مستقبل مستدام ومستقر، قادر على الحفاظ على قيمه وهويته في مواجهة تحديات العصر.
———
مدير مركز التدريب والتطوير بمدينة الإنتاج الإعلامى

زر الذهاب إلى الأعلى