حازم عبده يكتب : باكو مدينة الرياح والجمال(2)
حاصرنا الأصدقاء الأذربيجانيون بأدبهم الجم، و”اعتذارهم” عن ذلك الخطأ الذي وقع معنا في مطار حيدر علييف حيث لم يخرج الفاكس من الكشف الموجه إلى مسؤولي الاستقبال سوى صفحة واحدة، واحتفظ في جوفه بالصفحة التي تضم أسماء الثلاثة القادمين من جدة، حتى أن مستشار مساعد الرئيس الدكتور بهروز حسنوف (السابق) دعانا إلى العشاء يوم وصولنا بمطعم جميل عتيق يحمل اسم المدينة العريقة” شكى”، وقبل تناول العشاء كرر الرجل الاعتذار شفاهة وبحميمية اللقاء، فكل من قابلتهم قبل السفر إلى أذربيجان يقول بثقة سوف تسعدون وتعودون مرة أخرى أنتم وعائلاتكم، وأنا أتساءل لم كل هذه الثقة؟ إنها ليست كلمات مجاملة وانحياز لبلدهم بل هي حقيقية لقد تركت الحضارة بل الحضارات المتعاقبة التي نبتت أو وفدت واستوت على سوقها في أرض أذربيجان تركت بصمتها في نفوس هذا الشعب المضياف حقاً، المحب لضيوفه المكرم لهم، المحيطهم بكل تبجيل وتقدير، إنها حفاوة من القلب بإخلاص منقطع النظير في الاستضافة، فكنت أقول للزميلة سلمى الهاني: إنني لأعجب في هذه البلاد أقل شيء أتناوله أشعر بالشبع، بل على الرغم من التعب والجولات المرهقة لم أشعر أبداً بالجوع، إنها روح التحضر المتأصلة في ذلك الشعب تصبغ كل شيء بحالة من الراحة والأريحية والاستمتاع بكل شيء.
إنها بلاد عريقة هي واسطة عقد حضارات عظيمة، وحواضر فاعلة من شكى إلى كابلا إلى شاماخي إلى كوبا إلى جابرئيل وقراباغ، تقع في مفترق الطرق بين أوروبا الشرقية وآسيا الغربية، صاحبة دور محوري ضمن صناع التاريخ الإنساني، وفي العصر الحديث كانت صاحبة التجربة الأولى في محيطها الإسلامي لبناء جمهورية ديمقراطية برلمانية، وفوق هذا هي جزء أصيل في الجسد الإسلامي، فقد فتحها القائد حذيفة بن اليمان في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أما مرافقنا والشريك في استضافتنا شيخ الصحفيين الأذربيجانيين رئيس رابطة صحفيي دول منظمة التعاون الإسلامي فاضل عباسوف، فهو حكاية تستحق أن يكتب عنها مسلسل، فهو أديب وروائي وصحفي يجيد العربية كتابة وقراءة وأدباً وغناءً، تعلق بها منذ طفولته في قراباغ عندما وقعت يده على ورقة مصحف متطايرة من مكتبة إمام قتله السوفيت، ومزقوا مكتبته، في أربعينيات القرن الماضي، فذهب بها إلى جده وسأله: ما هذه الورقة؟ فأخذها جده وقبلها، وقال له: إنها من القرآن الكريم كتبت بالعربية. وشاء قدره أن يكون في صفوف القوات السورية في حرب أكتوبر 1973 بإحدى الوحدات التابعة للقوات الجوية.
ليس عباسوف وحده الذي تقرأ فيه تاريخ بلاده وحضارتها وكان جسراً بين أذربيجان والثقافة العربية الإسلامية، فهم كثر هؤلاء الرجال الذين يستحقون الكتابة ومنهم البروفسور رفيق علييف مدير مركز الدراسات الإسلامية (إرشاد) في باكو وصاحب القاموس العربي الأذربيجاني، وهو من أجل الإنجازات العلمية لربط العربية بالأذربيجانية وتسهيل التواصل بين اللغتين والثقافتين وقد سعدنا كثيراً بزيارته في صومعته بالمركز.