حازم البهواشي يكتب: رمضان شهر الشَّحاذين!!
الشحاذة هي التسول، وبالعامية نقولها ( الشِّحاتة )، ولأن (رمضان كريم)، فالشحاذون يعتمدون على هذه الصفة في تحقيق مكاسبَ أكثرَ من باقي شهور العام، ولأن كثيرًا من الناس تتلبسُهم رُوح الخير والعطاء في موسم النفحات الربانية، _ وهي رُوحٌ طيبةٌ لا شك _، فإنهم يُعطون كثيرًا من السائلين في هذا الشهر، حتى وإن لم يُعطوهم في غيره، مكررين حديثَ رسول الله: ( للسائل حق وإن جاء على فرس ) أو ( أعطُوا السائلَ وإن جاء على فرس ) ورغم تضعيف إسناد هذا الحديث، وكونِه مُرسلًا أي سقطَ من سَنَدِه الصحابي، وهو مِن أنواع الحديث الضعيف، إلا أنني بعيدًا عن ذلك، أفهمه على أنه جاء حثًّا من رسول الله على العطاء، ولا أُفَضِّلُ أن يتعاملَ المَرءُ مع الصدقاتِ والزكَوَات من باب أنه يريد التخلصَ منها، وإزاحةَ عِبئها عن كاهلِه، وأنه إنما أخرجَها لوجهِ الله، وليس له علاقةٌ بعدَ ذلك بمدى حاجةِ من سألَ مِن عدمها!! ويقول البعض: ( لئن تخطئ في العطاء خيرٌ من أنْ تُصيبَ في المنع )!! نعم، هذا صحيح، لكنني لا أفضل هذا المنطق في ظِلِّ أن الشِّحاذة أصبحت مهنة، لها أربابُها القائمون والمهيمنون عليها وقوانينُ عالَمِها!! وأُفضِّلُ أن يُتعِبَ المَرْءُ نفسَه بعضَ الشيء ليصلَ ما يريد لمَن يستحق، وإن كان هذا لا يَمنعُ حدوثَ الخطأ بنسبة مائة بالمائة، لكنه أفضل من إعطاء عِصابات مُتسولي المترو!! أنت حين تخطئ وقد سعيتَ واجتهدتَ أفضل من أن ترميَ أموالك لأحد أفراد عصابات التسول دون مجهود يُذكر منك!! وإن لم يكن لديك جهدٌ للبحث، فأعطِ شخصًا تثق فيه ليقوم بتوصيلها نيابةً عنك لمن يستحق، أو أعطِ جمعيةً خيرية تثق فيها.
في ظل الظروف الصعبة نحتاج إلى التأسي برسول الله الذي كان أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في شهر رمضان، إلا أن ذلك يضع على عاتقنا مسؤوليةَ التثبت، الإسلامُ دِينٌ يجبُ أن يكونَ أتباعُه قادرين على تحمُّل المسؤولية، لا يرمونها ويتخلصون منها، الإسلام دين يُحب المؤمنَ القوي، في الحديث الوارد بصحيح مسلم: (الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. اِحْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ).
تقول النكتة إن أحدَهم رأى عبارة (المؤمن كيِّسٌ فَطِن)، فقرأها (المؤمن كِيس قُطن)، فلما صُحِّحَتْ له، ردّ قائلًا: (زي بعضه، ماهُمْ الاتنين قلبهم أبيض)!! فكن الأولَ (كَيِّس فَطِن) ولا تكن الثاني ( كِيس قُطن )!!
وردَ في الأثر، _ وقد نُسِبَ إلى سيدنا “عمر بن الخطاب” وغيرِه _: ( لستُ بِالخِبِّ _ أي المُخادع _، ولا الخِبُّ يخدعني )، يقول ابنُ القيم: ” وكان عمرُ أعقلَ من أن يُخدَع، وأورعَ من أن يَخدَع “.
بَكَى “سُفيانُ بنُ عُيَينة”* يومًا؛ إذْ أتاهُ سائلٌ يلتمِسُ منه صدقةً، فلم يَكُن مَعَه مَا يُعطِيه لَهُ، فلما سُئِلَ: ما يُبكيكَ، وأنتَ لم تُقَصِّر في حقِّ الرجل؟! قال: وأيُّ مصيبةٍ أعظمُ من أنْ يُؤَمِّلَ فيكَ رجلٌ خيرًا فلا يُصِيبُهُ عِندك؟!
اللهُمَّ امْنَحْنَا القُدْرَةَ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاس، وَاعْفُ عَنْ تَقصِيرِنا.
—————————————
*سُفيانُ بنُ عُيَينة: ( 107هـ : 198هـ ) مُحدث الحرم، وُلد ونشأ بالكوفة، وسكن وتوفي بمكة، قال عنه الإمام الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهبَ عِلمُ الحجاز.