حازم البهواشي يكتب: الفاروق حاكمًا
منذ أكثرَ من عشر سنوات، وعلى موجات راديو مصر (88.7 FM) قدمتُ برنامجًا رمضانيًّا يحمل هذا العنوان (الفاروقُ حاكمًا)، بصحبة الصديق العزيز الداعية العالِم فضيلة الشيخ (محمد عبد العال الدومي) إمام وخطيب مسجد (مصطفى محمود)، وأراني الآن _ ونحن في شهر رمضان الكريم _ في شوق إلى أن أكتب عن الخليفة الثاني _ رضي الله عنه _ الحاكم الذي رأى فيه المسلمون المَثَلَ الأعلى في العدل، والحُكمِ الصالح، والصلاحِ والتقوى والورَع، وليس عليهم بأسٌ في ذلك كما يرى عميدُ الأدب العربي طه حسين (1889م:1973م).
جميعنا ينظر إلى سيرة عُمر بإجلال، ولكن هل نستطيع أن نعيش في صُحبته؟! فصحبة عُمر لا مكانَ فيها للراحة، أو استغلال النفوذ، أو النفاق!!
إن عُمرَ هو الذي أنشأ الدولة الإسلامية بالمعنى الصحيح لكلمة الدولة، وعظمتُه الحقيقية أو المُعجزة الكبرى كما يُسميها (طه حسين)، هو أنه استطاع أن يُدبرَ الأرض المفتوحة أحسنَ تدبيرٍ مُمكن في ذلك الوقت، لا يشكو منه مسلم ولا يشكو منه غير مسلم.
كان عُمرُ عظيمًا لكنه بسيط، بسيطًا لكنه قوي، قويًّا لكنه عادلٌ رحيم، وما كانت قوتُه قوةَ عِنادٍ وقسوة، إنما كانت قوةَ تفوقٍ وبطولة، وإلا لما استجابَ لأخته (فاطمة) ولكلام الله تعالى: “طه(1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ(2)”، ولما استجاب أيضًا للمرأة التي ردّته في تحديد مهور النساء!! ( وإن كان هذا الأثرُ لا يخلو من مقال ). نعم فقد ربّاه نبي الإسلام، ولا نزال بعد أكثر من 14 قرنا مشغولين بسلوكه عن فتوحاته وانتصاراته، فهو الذي يَجري _ رغم الحَرّ _ وراء إبل الصدقة؛ مخافةَ أن تَضيعَ فيُحاسبَه الله عليها، وهو الذي يصطحب امرأته لتساعد سيدةً غريبة أدركها المخاض!! وهو الذي يَرُدُّ طعامُ الصفوة، ويُحمِّلُ رسولَ عامل أذربيچان رسالةً للحاكم: (عُمرُ يأمُرُك ألا تشبعَ من طعامٍ حتى يشبعَ منه قبلَك جميعُ المسلمين)!!
يَقُولُ ( عُمَرُ بنُ الخَطَّاب ): ( إنَّ أفضَلَ عَيْشٍ أدْرَكْنَاهُ بالصَّبر، ولوْ أنَّ الصَّبْرَ كَانَ مِنَ الرِّجَالِ كَانَ كَرِيمًا )
وهو القائل:
لا شـيءَ مـمـا تـرى تـبـقـى بـشـاشـتــُـه
يَـبـقـَـى الإلــهُ ويـَـفـنـَى الـمـالُ والـولــدُ
وإني لأتوقف مرةً أخرى مع (طه حسين) في حديثٍ إذاعي له، يذكر فيه خصال عمر، وخاصة تلك الخصلة التي يرى أنه امتاز بها منذ تولَّى أمرَ المسلمين، ولم تكن تظهر في سيرته أيام النبي، ولا أيام أبي بكر، وهي قوةُ الضمير، ويقظتُه، يقول طه حسين: (فلستُ أعرِفُ في تاريخ الأمم _ التي قرأتُ تاريخَها _ رجُلا كان من قوةِ الضمير ويقظتِه وحياتِه كما كان عُمر).
عُمر هو الذي أنشأ قانون (من أين لك هذا)؟! وهو الذي قام بما نُطلق عليه اليوم (إقرار الذمة المالية)، وإن كان قد أحسنَ التطبيق؛ فلم يكن هناك من يستطيع أن يخدع عُمر؛ فهو يعرف، وتجربتُه في الحياة جعلته يَخْبُرُها ويَخْبُرُ الرجال، وكما يقول ابنُ القيم: “وكان عمرُ أعقلَ من أن يُخدَع، وأورعَ من أن يَخدَع “.
فكان لا يُولي واليًا ولا يُوظف موظفًا إلا أحصى عليه ثروتَه أولا، فإذا طال عملُه أرسل إليه بين حينٍ وحين مِن أصحاب النبي مَن يُحاسبه على ماله وعلى ما اكتسبه أثناء العمل، فإذا عزله عن العمل حاسبه، فإن وجدَ أنه قد اكتسب شيئا غيرَ مالِه قاسَمَه، فأخذ نصفَه لبيتِ المال، وتركَ للموظف نصفَ ما كسب، لم يَعْفِ من هذا الحساب ولا مِن هذه المقاسمةِ أحدًا حتى أحب الناس إلى النبي مثل سعد بن أبي وقاص.
لماذا استطاع عمر؟ لأنه عرفَ وخطّط واستشار وعمِل وتوكّل وأرضى ربه، وقبل كل ذلك غلبَ نفسَه وأخضعَها قبلَ أن يُخضِعَ الخُطُوبَ التي عَرَضَتْ له، وبذلك استطاع أن يُخضِعَ غيرَه من الناس.
رضيَ الله عن أميرِ المؤمنين عُمر، الذي أتعبَ مَن جاءَ بعدَه.