مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: الحياة في مترو الأنفاق!!

تنزِلُ السلالمَ لتقفَ على الرصيف لتستقلَّ قطارَ مترو الأنفاق، وأثناء نزولك أحيانًا تجد القطارَ بالفعل يقف في المحطة، فتُسرع وتُهرول عَلَّك تلحَقُ به، فيُغلق أبوابه وأنت أمامها!! وهكذا هي الحياة… ربما يروق لك شيء وتلمحه من بعيد، فإذا اقتربتَ منه وأصبح كأنه ملكُك، لا يكون لك نصيبٌ فيه!!
وفي أحيانٍ أخرى تلحق بالقطار وتركب بنفسك، أو يُسَخِّرُ لك الله شخصًا يُمسك بالباب حتى تتمكن من الركوب، أو يَلحظ السائق الأمامي أنك في عجَلَةٍ من أمرك، فيفتح لك باب (الكابينة) لتجلس بجواره، معتذرًا أنه لم يفتح بابَ القطار؛ إذ إن السائق الخلفي هو من يتحكم في الفتح والإغلاق!! وهكذا هي الحياة… أحيانًا تأتيك الفرصة من حيث لا تحتسب ولا تتوقع، تراها ضاعت، لكنّ القدرَ لا يحرمك مما لك (ما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما ليس لك لن تناله بقوتك).

إذا كنتَ تنزل سلالمَ المترو وأمامك وقت، فلن تُباليَ إذا كان القطارُ موجودًا على الرصيف أم لا، فتنزل باطمئنان؛ فعامل الوقت هذه المرة في صالحك!! وهكذا هي الحياة… كلما كنتَ حريصًا على وقتك، تستغله بصورة طيبة، لا تعتمد دومًا على الفرصة الأخيرة، لا تُذاكر وقت الامتحانات فقط، كلما كنتَ أكثرَ اطمئنانًا؛ فوقتك هو عُمرك الذي تعيشه، فلماذا تعمل بيديك على أن تعيش قلِقًا؟!

تستقل المترو، فتراه مزدحمًا للغاية، ويكون الوقوف صعبًا، وفي أحيان أخرى يكون بلا رُكاب، ويمكنك التنقل والجلوس كيف تشاء!! وهكذا هي الحياة… ستقابلك فيها أوقاتٌ صعبة، وأخرى سلِسَةٌ مُيسرة.

في ذروة زحام المترو، وأنت لا ترى مخرجًا مما أنت فيه إلا أن تقتربَ محطةُ نزولك، فلا خلاصَ إلا بذلك، تجد الجالسَ أمامك يقوم لينزل، بل ربما تتأخر في الركوب نتيجة زحام الرصيف، وتركب آخِرًا، وكنتَ تتمنى أن تركب أولًا لتلحق مكانًا تجلس فيه، وإذا بالشخص الذي كنتَ تقف أمامه ينزل فجأة قبل إغلاق الباب لأنه كان قد نسي أنه سينزل هذه المحطة، فتركب على غير توقع منك!! ويأتيك الفرج من حيث لا تحتسب!! وهكذا هي الحياة… ( ما ضاقت إلا ما فُرِجت )!!
ضاقتْ فلمَّا استحكمَتْ حلَقاتُها … فُرِجَتْ وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ!!

في ذروة زحام المترو حيث من المفترض أن يَعذر كلٌّ منا الآخر عند الاحتكاك الذي يكونُ بغير قصد طبعًا، تجد الأخلاق تضيق، والمشاجراتِ تكثر!! وهكذا هي الحياة… لا تتوقع أن يلتمس الناسُ لك الأعذار، حتى وإن كان عُذرك مقبولًا!! وحين يكون القطارُ فارغًا من الركاب، تبتسم الوجوه، ويلتمس الناس لبعضهم الأعذار!! إنه الفرق بين أخلاق (الرحرحة) وأخلاق (الزحام)، بين وجود خصوصيةٍ ومساحةٍ كافيةٍ تحقق الإنسانية وتهذب السلوك، وبين تعطيل هذه الخصوصية بسبب الزحام فلا يَظهر من السلوك إلا غيرُ اللائق.

في المترو هناك أماكن مخصصة لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، في أحيانٍ كثيرة ستجد شبابًا أو من لا يستحق عمومًا يجلس فيها مع وجود من يستحق!! وهكذا هي الحياة… لا تتوقع أنها عادلة وأنها دائمًا ستعطيك حقك، ولكن لا تَسخط ولا تَجزع ولا تتهم الحياة أو الدهر بالجَور والظلم، بل ارضَ وتعوَّدْ أن تطالبَ بحقك.

في المترو سيُقابلك المطحون، والبيه، والحرامي والنصاب (غالبًا في صورة شحاذ)، الذي لن يحترم ذكاءك في أنك من مُرتادي المترو دائمًا (خَبَرْتَ الحياة)، وبالتالي فقد أصبحتَ خبيرًا بأساليبهم، بل وعلى عِلمٍ بأشكالهم!! وهكذا في الحياة… ستقابلك هذه الأصناف، فلا تسمح لأحد أن (يستكردك)*!! ( عزيزي القارئ: لا يفوتك الهامش لتعرف أصل هذه الكلمة.

في المترو ستقابلك الفتاة أو السيدة (العايقة) التي تهتم بمظهرها وتضع (الماكياچ) بكثرة، والشاب (الرِّوِش)!! وهكذا في الحياة… فلا تقتحم خصوصيةَ أحد، ولا تحكم على أحد بمظهره.

في المترو سيقابلك جميع أجناس وفئات الناس، كما الحياة، فلا تتدخل فيما ليس لك به شأن (من حُسنِ إسلامِ المرء تركُه ما لا يَعنيه)** فاحرصْ على ما ينفعك.

الحياة قطار، وحتمًا ستنزلُ منه، وإن كانتْ محطتُك الأخيرة!! ومهما طال زمن الرحلة فهو قصير، ولا يُساوي التلكيكات والمشاجرات والخناقات والمنازعات. (مِش مستاهلة)!!

—————————————

*كلمة ( الاستكراد ) كانت مديحًا لمجاملة غير الأكراد، وتشبيههم بالحُكام الذين اشتُهروا بالعدل ومعاملة الناس معاملة حسنة مثل صلاح الدين الأيوبي، (وهو كردي)، لكنها تحولت على غير ما استُخدمت له من مديح إلى معنى قبيح، للدلالة على الغباء والحُمق، بعدما توسل بها المحتالون ومرتكبو الجرائم لرجال الشرطة وحراس السجون بإطلاق اللقب الكردي عليهم أي أنت كردي ولا تَظلِم، أنت متسامح، لكنّ رجال الشرطة كانوا يردون: تَستكردني؟! أنا لستُ كرديًّا وسأشبعك ضربًا، سأعاقبك!!
** حديث حسن رواه الترمذي وغيره.

زر الذهاب إلى الأعلى