مقالات الرأى

احمد صلاح يكتب : بنية العقل المصري “محمد علي وعصره”

0:00

اعتقد انه ليس من الصعب ان نحيط علما بدروب عصر محمد علي الذي كان بحق مؤسس مصر الحديثة ، فبعد ان خرجت جيوش فرنسا من مصر عام ١٨٠١ بعد فشل الحملة علي اصعدتها العسكرية والاقتصادية والإستراتيجية ، الا ان الحملة نجحت علي الجانب الثقافي ، بعد انشاء المجمع العلمي، وتاليف كتاب وصف مصر، الذي كان جل اهتمام العلماء الذين جاءوا مع الحملة .
من عام ١٨٠١ وحتي ١٨٠٥ مرت مصر بفترة تخبط سياسي كبير، نشأ من الفراغ السياسي الذي تسبب فيه خروج الحملة بشكل شبه مفاجيء ، مع ضعف يد الدولة العثمانية ، فضلا عن كسر شوكة المماليك ، وكان وجود محمد علي، علي راس الفرقة الألبانية فقط يراقب بهدوء الاوضاع في بر مصر ، وفي النهاية أصبح علي سدة الحكم
لا يهمنا هنا ان نستطرد في كتابة تاريخ تلك الحقبة ، فهذا موضعه فصلا اخر، وانما ما يهمنا ان نرصد بنية العقل المصري، والذي صدم مع احتكاكه بالفرنسيبن ، وشاهد التقدم العلمي المبهر ( في وقته ) والذي أدار عقل المصري .
وصل محمد علي الي سدة الحكم ليجد شبه دولة ، وضع سياسي محتقن، اقتصاد مهلهل، بنية تحتية مدمرة، تاخر علمي ومعرفي وثقافي كامل ، فضلا عن ان الحالة الصحية للمصريبن كانت بائسة.
بدأ محمد علي في ترتيب البيت ، فبدأ بنهر النيل ، فكان تطهير الترع والمصارف وانشاء الجسور ، ثم كان التخلص الفوري من المماليك ، وترتيب الدوواين ، ثم … بدا يوفد البعثات الي اوروبا.
بدأ محمد علي يرسل الطلبة المصريين الى اوروبا حوالي سنة 1813 وما بعدها، واولى وكانت البداية الي ايطاليا، فاوفد الى ليفورن وميلانو وفلورنسا وروما وغيرها من المدن الايطالية طائفة من الطلبة لدراسة العلوم العسكرية وبناء السفن وتعلم الهندسة وغير ذلك من الفنون.

وافراد هذه الرسالة لم يتناولهم الاحصاء الدقيق، وانما يعرف منهم (نقولا مسابكي) افندي الذي اوفده الى روما وميلانو سنة 1816 بواسطة المسيو روستي قنصل النمسا في مصر ليتعلم فن الطباعة وما اليها من سبك الحروف وصنع قوالبها، فاقام اربع سنوات ثم عاد الى مصر فتولى ادارة مطبعة بولاق سنة 1821 وبقى مديرا لها الى ان توفى سنة 1831.
ثم بدأ نظر محمد علي يتجع الي انجلترا وفرنسا ، فارسل اليهما ما يزيد عن ٢٨ طالب لدراسة بناء السفن والملاحة ومناسبب المياة والميكانيكا.
كانت البداية حثيثة في مسألة البعثات ولكنها اتت ثمارها سريعا ، فما مان من محمد علي الا ان بدا في ارسال البعثات بقوة وكان اول البعثات الكبري في عام ١٨٢٦، وهي مؤلفة من اربعين تلميذا، ولحق بهم اربعة تلاميذ اخرون، فصار عدتهم سنة ١٨٢٨ اربعة واربعين طالبا.

وفي سنة ١٨٤٤ اوفد بعثة كبرى من الطلبة لتلقي العلوم والفنون الحربية مؤلفة من سبعين تلميذا اختارهم سليمان باشا الفرنساوي من بين تلاميذ المدارس المصرية، وكان بينهم اربعة من الامراء، منهم اثنان من ابناء محمد علي وهما الامير عبد الحليم والامير حسين، واثنان من ابناء ابراهيم باشا وهما الخديوي اسماعيل والامير احمد، وقد اوفد بعثة صغيرة سنة ١٨٤٧ الى فرنسا من طلبة الازهر لتلقي علم الحقوق فتعلم هؤلاء جميعا بارشاد المسيو جومار وتحت رقابته، وارسل غير هؤلاء بعض التلاميذ الى انجلترا والنمسا.
اعقب تلك البعثة ثمان بعثات اخري ليصبح عدد البعثات التي ارسلها محمد علي الي مختلف دول أوروبا تسع بعثات كبري فضلا عن ثلاث ارساليات صغيرة قبل تلك البعثات ، ليعود هؤلاء الشباب وقد درسوا وتعلموا وترجموا مختلف العلوم سواء عسكرية او طبية او هندسية ، وينفتح هؤلاء علي اوروبا وتيارات الفكر الحديث فيها، وكان ابرز من حاول ان يترجم ذلك الفكر هو رفاعة رافع الطهطاوي ، الذي ذهب الي اوروبا اماما للمبعوثبن ، ففتن بعلوم الغرب وفكرهم فترجمه ، وينتقي منه ما يحتاجه العقل الذي توقف وكاد ان يصاب بالشلل بعد سنوات من الركود .
منذ اول بعثة والعقل المصري بدا يصحو .. بل بدأت الحباة تدب مرة اخري في بر مصر المحروسة ، كان العملاق يقوم من مرضه ، لتبدأ مع عصر محمد علي مصر الحديثة ، التي استقبلت كتابات فلاسفة الغرب الجدد بذهن منفتح ، مدركة ان علوم الدين تختلف عن علوم الدنيا ، ولابد ان يدرس الفقه بجانب دراسة الطب ، فكان العقل المصري في تلك المرحلة قادرا علي استيعاب هذه الفروق وتلك الاحتياجات دون غضاضة او تحريم

زر الذهاب إلى الأعلى