مقالات الرأى

أمينة شفيق تكتب : مسرح كله دهب في دهب

0:00

كنت في المرحلة الثانوية عندما جاءت الى فصلنا “تالتة اول ” فصل البنات الشقية، السيدة نعيمة احمد الناظرة وابلغتنا ان المدرسة تنظم رحلة يوم الجمعة التالي إلى دار الاوبرا المصرية لحضور حفلة بنات المدارس الثانوي المصرية تحت رعاية الاميرة فوزية اخت جلالة الملك، وكان المطلوب حضور عدد من كل مدرسة ثانوي في القاهرة. وكان المطلوب منا عشرة قروش من كل تلميذة وكان المطلب الثاني جديدا علينا “تايير نظيف جدا وبلوزة نظيفة جدا ومكوية وحذاء مدهون بالورنيش وملمع وشراب ابيض مغسول وضفائر بشريط ابيض وشعر مغسول واظافر قصيرة دون الوان”. يعني تلميذات ” مهندمات” للغاية. بالإضافة إلى ان ابلة الناظرة “نبهت” بشدة علينا بعدم الكلام او الهمس او “الضحك بدون سبب” أثناء العرض لأن الأميرة فوزية ستكون حاضرة ولابد لبنات العباسية الثانوية للبنات ان يظهرن في أحسن مظهر حتى لا يقال عنهن انهن قليلات الادب. ثم عرفنا في نهاية المقابلة ان ابلة الناظرة ستكون موجودة قبل تحرك السيارة الى دار الاوبرا يوم الجمعة “لتكشف بنفسها على كل تلميذة منا”. وانصرفت السيدة الناظرة وبدأت التلميذات في الهرج والمرج و”التريقة” على التعليمات وعلى الست الناظرة وعلى الاميرة فوزية التي طلبت “مسح الاحذية”.
أما انا فقد لف نظري عبارة “دار الاوبرا” لأني كنت سمعت قديما من احد اصدقاء والدي ان جده قد دعي مرة للذهاب الى الاوبرا وقدم اعتذارا لرؤسائه لأنه لم يكن يمتلك الملابس المناسبة للمكان وللحضور. لذلك فرحت لان الناظرة لم تطلب الا الزي المدرسي ولكن لابد ان يكون نظيفا.”جدا”
وبالفعل ذهبت الى المنزل وابلغت اسرتي بالخبر السعيد الذي سيجمعني بالأميرة فوزية “في مكان واحد”. كما ابلغتهم اني ساشرف بنفسي على نظافة ملابسي. وطلبت منهم العشرة قروش التي كانت في ذلك الزمان ثمن رطل لحم ضأن. وفي اليوم المحدد ذهبنا صباحا الى المدرسة وقابلتنا الست الناظرة ومرت علينا واحدة بعد الواحدة ثم توجهت السيارة الى دار الاوبرا.
ودخلنا. . . وإذا بنا في مكان غير المكان وكأننا في زمان غير الزمان. كنا صغيرات السن حوالي السادسة عشر او السابعة عشر لذلك تصورنا انفسنا في قاعة من الذهب الخالص. فبدأنا نهمس ونتكلم “شوفي الدهب قد إيه” “يا حلاوة شوفي الستارة قد ايه” “شوفي الكراسي شكلها إيه” نسينا تعليمات الناظرة وبدأنا نتأمل الذهب الذي يكسو جدران المبنى . كما نسينا الأميرة فوزية. ونتعجب.
وتابعنا العرض الراقص التوقيعي الذي قدمته بنات مدرسة الثنية الثانوي للبنات وبنات مدرسة الأميرة فوزية للبنات وانتهى الحفل بعد ان قدم الميكروفون خبر حضور نيابة وصيفة الاميرة بدلا منها. وكان خبرا غير ملفت لنا لأننا كنا مشغولات بكم الذهب الذي نراه لأول مرة في حياتنا.
وانتهى الحفل وحملتنا السيارة الى المدرسة ومنها الى المنزل ولحظة دخولي الى أسرتي سألتني جدتي ” هيه شفتي إيه” اجبتها “هب كله دهب في دهب”. ومن الطبيعي الا افهم في هذا السن اني لا ارى دهبا حقيقي وإنما “مية ذهب” للطلاء ولكنى اليوم وانا استرجع هذا الماضي اتصور ان ما حدث في هذا اليوم كان حدثا اجتماعيا كبيرا لأن ” بنات الطبقة الوسطى المصرية دخلن دار الاغنياء”؟ التي لم تدخلها بنات اسرتي السابقات على. كنت اولى بنات اسرتي هذه التي تدخل دار الاوبرا المصرية.
ومرت الأيام وفي يوم كنت في حديقة النقابة مع زوجي وإذ به يقول لي اننا مدعوان لحضور حفل افتتاح أوبريت العشرة الطيبة لسيد درويش وغناء شهر زاد وكارم محمود في دار الاوبرا. قفزت من على الكرسي وحكيت له يوم ان دخلت الى هذه الدار مع بنات فصلي. أجاب “ده كان زمان وقبل التأميمات والاشتراكية”. وفهمت لحظتها ما سمعته في ذلك اليوم الذي دخلت فيه دار الاوبرا لأول مرة. ” بنات الطبقة الوسطى دخلن دار الاغنياء”. وفي لحظة وجودي في النقابة مع زوجي تفتحت مفاهيمي على حقائق أخرى وهي المجتمع يفتح زراعيه لطبقة اجتماعية جديدة انتمي اليها وعلى الاستعداد لدخولها.

زر الذهاب إلى الأعلى