مقالات الرأى

أحمد محمد صلاح يكتب : علي باب مصر – النهر

0:00

كان لا بد وأن أتوقف عن سيل الحديث الذي جرفني عن شخصيات مصر العظيمة، سأنجرف حتما إذا حاولت أن أكتب عن كل شخصية، وهو الفخ الذي كنت أشعر باللذة وأنا أقع فيه متعمدا، فمع كل هؤلاء الشخصيات التي تحدثنا عنها في تكوين العقل المصري، ما زال هناك الكثير بل الكثير جدا، وان كنت أعترف أنني قد قصرت في الإسهاب في بعض الشخصيات التي تحتاج إلى تفنيد أكثر في سيرتهم، كما أنني لم أكتب عن العنصر النسائي في تشكيل الوعي المصري، كل هذا أعلمه جيدا.
وكان سبب توقفي عن الحديث بشأن عقول مصر، أنني في خضم الكتابة والمذاكرة حول مصر، وجدت شيئا عجيبا، هو مصدر هذا التفرد، لماذا مصر بالتحديد بها كل هذه العقول، كل هؤلاء الكتاب والمفكرين والفلاسفة والأئمة والملحنين والفنانين والرسامين والزعماء.
الإجابة هنا ليست بالسهلة في أن نحدد “الجين” الأساسي في سر تلك العبقرية، وأنني متحيز تماما للعبقرية المصرية ووصفها بهذا الوصف والذي قد يقول البعض إنني لا أكتب بشكل علمي وإنما تتملكني العاطفة والوطنية، وأقول بهدوء إن العبقرية المصرية بالفعل موجودة ومتفردة.
ولنمسك الخيط من البداية، النهر، نهر النيل، ذلك النهر العظيم الذي يأتي إلى مصر من أعالي أفريقيا ليسيل بين سهول وجبال مصر، ويشعر المصري نحو هذا النهر بعاطفة الأب، النهر هو الأب، ويجتمع حوله المصريون، فيقدسونه، ويقيمون له عيدا، ثم يعبدونه، ويعتقدون أن أهم اعترافا في الآخرة أنه لم يلوث ماء النهر.
والنهر لا يضن علي المصري، على الرغم من غضباته المدمرة أحيانا، فالحاكم الذي يهتم بالنهر يخلد اسمه في سجلات التاريخ، من علم المصري هذا؟… بالتأكيد هي في جينات هذا الشعب، نجد المصري يمجد حاكمه الذي يهتم بالنهر مثل محمد علي وجمال عبد الناصر.
التف الشعب المصري منذ العصر ما قبل الحجري حول النهر، وحوله اكتشف الزراعة، وأمن حياته ومأكله ، ثم استطاع أن يضبط الوقت علي فيضانه مع استخدام النجوم وعلوم الفلك، ومن حول ذلك النهر بدأت الحضارة، فالنيل ليست فقط هبة ولكنه جين أساسي في دماء المصريين.
كنت أبحث عن ذلك “الجين” خاصة وأننا في فترة تتكالب علينا أمم الجهلاء ممن يدعون أن أصولنا أفريقية وان أصل حضارتنا هي أفريقيا، وهؤلاء قد يتكلمون من نفس منطقي الوطني، ولكنهم تزيدون كثيرا حتى الغباء، ولو بحثوا في دمائهم لن يجدوا هذا الجين.
حدثني صديق طبيب بشري، وقد سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليتلقى عدد من الدورات هناك، هو طبيب مصري مشهور ومعروف في علوم الأمراض الباطنة، ذهب وعاد إلى مصر مرة أخرى، وجلسنا نتحدث عن رحلته وورقته البحثية التي كانت عن نهر النيل وتأثيره في عدد من الأمراض التي يتفرد بها المصريون وحدهم، فقال لي إننا جميعا نولد وفي أجسامنا ماء النهر، وهذا أمر عجيب، أن يترك النهر بصمته حتى على الطفل المولود، كنت أتعجب من حديثه، ولكنه عاجلني بأن ليست الوراثة فقط هي ما تؤثر على الطفل في بطن الأم بل ما تأكله وتشربه الأم أيضا، وأكمل بهدوء الجراحين أننا جميعا مصابون بداء النهر، ثم ابتسم وهو يرشف من كوب ماء مثلج ويقول، أليس هذا مرض جميل.

زر الذهاب إلى الأعلى