ياسين غلاب يكتب : منظمات المجتمع المدني ..الجذور والنشأة
يمتد هذا المصطلح بعيدًا في أعماق الغرب إذ يعبر عن جزء أصيل في بنيته والعقيدة المشكلة لمجمل سياساته في الهيمنة والسيطرة والحفاظ على ما يسمى بمبدأ حرية السوق ومنع أية تنمية بديلة في باقي العالم تهدد مكانة هذا الغرب ونموذجه العيش الذي يفرضه على الدول الأخرى؛ لكن كيف تطور هذا المصطلح لما أصبح عليه الآن؟
في الحقيقة لم يظهر هذا المصطلح بهذا الشكل كما نستخدمه في مجتمعاتنا الآن، فهو بحكم التعريف الغربي الرسمي منظمات غير حكومية أي Non governmental Organizations ويطلق عليه اختصارًا NOgs واختارت الإدارة الأمريكية هذا المصطلح في بداية الثمانينات من قبل الكونجرس الأمريكي نظرًا لافتضاح عمليات “قذرة” بحسب تعبير الكونجرس للمخابرات الأمريكية في عدد من دول العالم مما سبب حرجا بالغا للإدارة الأمريكية حيث تضمنت هذه العمليات انتهاكا فاضحا لسيادة هذه الدول فتقرر حظر هذا النوع من العمليات للمخابرات الأمريكية واستبداله بنموذج آخر هو عمل المنظمات غير الحكومية.
أرادت الإدارة الأمريكية من وراء هذه المنظمات أن تعمل في العلن وتسير في النور مستخدمة غطاء المساعدات والمنح لاختراق مجتمعات دول العالم الثاني والثالث، وفي الحقيقة أيضا أجبرت الولايات المتحدة عددًا من دول العالم الأول على اتباعها في هذا النهج لمزيد من الاستتباع لها ولإخفاء إنتشارها وعدم إظهارها بأنها تابعة لواشنطن فقط. كان الهدف الأساسي لها ضمان عدم وقوع الدول تحت النفوذ الغربي منذ الحرب العالمية الثانية تحت تأثير الأيدولوجية الشيوعية أو الاشتراكية أو القومية للمعسكر الشرقي، وصولا لضم الدول التي يتنافس عليها المعسكران في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا التي تشكلت فيما يعرف بدول عدم الانحياز ثم اختراق دول الاتحاد السوفيتي نفسها وتفكيكها وضمها هي الأخرى للمعسكر الغربي شريطة أن تكون تابعة له وليس أن تكون دولا لها نموذجها الذاتي في التنمية.
هذه الفكرة، التي يسمونها استتباع دول المحيط لدول المركز الرأسمالي الغربي هي جوهر الفكرة منذ أسس لها زبجنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي للرئيس كارتر الذي قال إنه يجب أن يرش المال رشا لاجتذاب هؤلاء المثقفين والقوى الفاعلة في النقابات والأحزاب السياسية في دول العالم الثاني والثالث حتى تكون شعوبها بلا رؤية أو عقل يمكنها من إعاقة أو فضح مساوئ الرأسمالية سواء أكانوا يساريين أو وطنيين يحلمون بنموذج تنمية مستقل لبلدانهم، ثم قام جورج شولتس في إدارة ريجان بالتأسيس الأكاديمي والتنظيمي في عام 1983 حينما ألقى ريجان خطابه الشهير في لندن في تأسيس منظمة “نيد” أو الوقف القومي للديمقراطية والتي ضمت تحت لوائها 4 منظمات أخرى ليكون تأثيرها عالميا على جميع النقابات والشركات الكبرى والأحزاب اليمينية واليسارية في العالم؛ فيما اصطلح على تسميته “بالهيمنة الثالثة”.
نعود لجذور ونشأة هذا المصطلح مرة أخرى، فنجد في تأصيل جرامشي لهذا المصطلح، أن أوروبا كان لها “مجتمع سياسي برجوازي”، أي طبقة حاكمة تتولى الشئون السياسية لبلدانها حصرًا وحكرًا عليها، هذه الطبقة هي التي تتلقى تعليما سياسيا عاليا لتأهيلها لحكم هذه الدول، بما فيها الشق العسكري، في مقابل “المدنيين” أو “Civilians” الذين هم باقي الشعب، والذين لا يملكون لأنفسهم حولا ولا قوة إلا في العمل على تنفيذ رغبات هذا “المجتمع السياسي الضيق”، أو النخبة المهيمنة ولهذا كان دفاع “المدنيين” المستمر لانتزاع المشاركة في الحكم، وهو ما كتب عنه “هيجل” الفيلسوف الألماني المعروف وانتقاده لهذه الطبقة البرجوازية حيث دعا إلى أن يكون هناك “مجتمع سياسي دستوري”، أي أنه يقر بنفوذ هذه الطبقة لكنه يدعو إلى ترشيد هذا النفوذ.
بيد أن للحكاية بعد أعمق من ذلك بكثير، هو بعد ديني بامتياز وهو لب عقيدة الهيمنة الغربية بجانب أفكار حرية السوق، والنموذج الرأسمالي في التنمية بتنويعاتها، حيث اجتماع المال مع العقيدة البوريتانية الدينية التي تجعل هؤلاء لا يشعرون بوخز الضمير في انتهاكاتهم لغيرهم بمجرد الاستغفار والتوبة والعودة إلى إلى الانتهاكات من جديد. هذه العقيدة التي تمثلها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة تنبع من مقولة للقديس متى وهي “إن الرب اختارهم لتشييد مدينة مضيئة على قمة جبل”، وكأنه “جبل صهيون”، هذا التمايز الذي له جذوره من المقولة اليهودية “شعب الله المختار”. أي أن فرض النموذج الغربي على بقية العالم هو واجب مسيحي يجب تكريسه طوعا أو كرها.
هذه الفكرة استقاها هؤلاء المؤسسون منذ أن اجتزئ جزء من رأس الملك البريطاني تشارلز الأول وهروبه إلى هولندا هو وأتباعه إلى الأرض الجديدة، وهم أطلق عليهم “البيورتانيين” أو الأطهار. المتبنون لهذه العقيدة سواء من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي هم من قادوا هذه المنظمات غير الحكومية واستخدامها كما ذكرنا أعلاه في موجة “الهيمنة الثالثة”.
نعود لكلمة “مدني”؛ وظهورها في المصطلح، بعد مد شبكات هذه المنظمات في السبعينيات في الجزء الجنوبي من أوروبا وتحديدا في اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال من أجل اجتذابها لمنع توجهاتها نحو الشرق، ومدها في الثمانينيات في أمريكا اللاتينية والفلبين وفي التسعينيات لشرق أوروبا والوطن العربي حتى اليوم، حدثت إزاحة لهذا المصطلح حيث صعوبة تداوله في منطقتنا على سبيل المثال، فتم استدعاء فكرة المجتمع السياسي البرجوازي في مقابل “المدنيين”، وتطويرها لتصبح فكرة “مدني” مقابل “عسكري”، إذا أن من قام بحركات التحرر الوطني في الوطن العربي على سبيل المثال هم قوميون عسكريون.