مقالات الرأى

محمد أمين المصري يكتب : ولاية جديدة من تناقضات أردوغان

لم يكن فوزا سهلا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كي يعبر بوابة ولايته الثالثة في منصبه الأهم، فالنتيجة التى حصل عليها ليست هينة على نفسية شخص مثل أردوغان، فهو يريد كل شئ، كامل الأصوات، وإن قلت صوتا واحدا فلا يعتبر نفسه فائزا..هكذا هو يعتقد أنه الأحق بالرئاسة، الأحق بالسلطة، الأحق بكل تركيا..أما وإن أجبرته صناديق الاقتراع على خوض جولة ثانية فهذا بالتأكيد أمر يشوبه القلق، فكيف يجرؤ مواطن تركي على التصويت لمنافسيه، إنها الخيانة بعينها، وكيف يتجرأ الأتراك على وضعه في كفة واحدة مع مرشح حزب الشعب الجمهوري كمال أوغلو كليجدار، هذ الخصم الذي لا يراه أردوغان.

الرئيس التركي لا يرى أحد سواه، فهو صاحب الانجازات العظيمة التى تعهد باستمرارها في ولايته الثالثة بعنوان “قرن تركيا”..وتعهد بوضع دستور مدني ديمقراطي يخلص بلاده من “عهد الوصاية والانقلابات والقومية الإلزامية”. الرئيس التركي وهو يتحدث عن دستور مدني ديمقراطي لم ينس ما فعلته المعارضة به وجعلته يخوض جولة ثانية صعبة، فالمعارضة أجهضت أحلامه بفوز كبير من الجولة الأولى، وهي المعارضة التي جعلته يشعر بخطورة موقعه وكاد بسببها يسقط في الانتخابات إذ كانت النتيجة النهائية بفوزه بنسبة ٥٢،٢٪ من الأصوات مقابل ٤٧،٨٪ لمنافسه كليجدار.

ورغم أن الفائز في أي انتخابات وطنية يعلن دوما الصفح والتسامح ويقبل الجميع تحت مظلة رئاسته، إلا أن أردوغان قطع عهدا على نفسه بمحو معارضيه من السياسة بعد ٢٨مايو أي تاريخ الجولة الثانية التى جاءت به رئيسا. وهو نفسه الذي سبق وأعلن نيته وضع دستور مدني ديمقراطي، أي يفترض أن يحتضن الجميع ويقبلهم تحت مظلته حتى وإن تباينت أهداف الأحزاب ومصالحها فكلها داخل الوطن وتعمل من أجله، ولكن هذا لا ينطبق على أردوغان، فهو لا يزال يلسع معارضيه رغم إعلانه أن “قرن تركيا” سيفتح الباب لنهضة البلاد واحتضان ٨٥ مليون مواطن دون تمييز بسبب أرائهم السياسية أو عرقياتهم أو أطيافهم، عهدا بلا انتقام أو تصفية حسابات. تعهده هذا لم يمنعه من اتهام المعارضة بأنها ضعيفة وعليها الابتعاد عن الحسابات الصغيرة.

المعارضة في اعتقاد أردوغان لم تفلح في تحقيق أي نجاح رغم أكاذيبها وافتراءاتها..فهل يصدق الرئيس التركي في وعده باحتواء الجميع واحتضان شعبه بكافة أعراقه وأطياف؟..وهل يصدق في وعده بتطبيق “مبدأ السلام في الوطن والسلام في العالم” الذي وضعه مؤسس الدولة كمال الدين أتاتورك وهو نفس المبدأ الذي أعلن أردوغان العمل به في الولاية الثالثة؟

لم يستطع أردوعان كبح كباح نفسه عن كيل الوعيد للمعارضة وهو يردد شعاره للمرحلة المقبلة عن تبني سياسة تقوم على التقارب مع الجميع، فكان تصريحه الخطير بمحو المعارضة، فكيف في هذه الحالة يرأس أردوغان تركيا وبها منافس معارض نال أكثر من ٤٧٪ من الأصوات؟ وكيف إذن يحمي بلاده وينشر بها الاستقرار وهو يهدد بمحو نصف عدد سكان تركيا تقريبا الذين قالوا “نعم” لكليجدار.لعل رأي المعارضة هنا يجسده أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء السابق وأكبر حليف لأردوغان في بداية عهده، إذ يدحض أوغلو – أكبر معارض لأردوغان حاليا – اتهامات الرئيس التركي بأن المعارضة فاشلة، ويؤكد أنهم لم يفشلوا بل خططوا وحققوا تقدما ملحوظا، ولكن مشكلة المعارضة أنها لم تصل الى الناخبين بشكل كافي..وهنا يستغل أوغلو اللحظة ليتهم أردوغان بأن المعارضة لم تصل للجماهير “لأن جميع قنوات الاتصال كانت مغلقة أمامنا ومارس أردوغان الكذب والافتراءات ضدنا”.. الأمل الذي يعيش عليه أوغلو يتجسد في الناخبين “هم أكبر ضمانة للمستقبل، وطالما كان هناك وعد بالمشاركة السياسية فيمكن إيجاد حل وانتاج بديل لكل سياسة فاسدة..والحفاظ على الأمل في الإبحار إلى أفق جديد من كل نفق مظلم”.

الأمر المؤكد أن أردوغان يواجه معارضة قوية في البلاد، وتشهد العلاقة بينه وبين المعارضة توترا مستمرا، إذ يميل الرئيس التركي إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد المعارضة والمنتقدين لسياساته وإدارته. وقد يستخدم أدوات السلطة المتاحة له لتقييد نشاطات المعارضة وقمع الانتقادات. وعلى سبيل المثال، كليجدار وأوغلو هما عضوان بارزان في حزب الشعب الجمهوري ، وهو الحزب الرئيسي المعارض في تركيا. ويفترض أن يتمثل دور المعارضة في تقديم رؤية بديلة ونقد بناء لسياسات الحكومة وممارساتها، ولكن المعارضة التركية تواجه تحديات كبيرة في التعبير عن آرائهم بحرية وبدون قيود.

تعتمد استجابة أردوغان لهذه الشخصيات وغيرها من أعضاء المعارضة على الظروف السياسية والمصالح الحكومية. في بعض الأحيان، قد يلجأ إلى الحوار والمناقشة مع بعض المعارضين لتهدئة التوترات السياسية وإظهار صورة للديمقراطية والحوار السياسي. ومن الأمور الممكنة أن يستخدم الأدوات القانونية والسلطة السياسية لضغط على المعارضة وتقييدها.

يجرنا الحديث عن المعارضة عن مكون مهم في الحياة التركية وهو “حركة الخدمة” ورئيسها الملقب بالأستاذ فتح الله جولن، إذ أن العلاقة بين الطرفين تكاد تكون مقطوعة تماما ومن الصعب على أي مراقب توقع تحسنها في القريب العاجل، فالتوتر بين الطرفين يشهد توترا لا مثيل له منذ فضيحة الانقلاب الفاشلة عام ٢٠١٦، لا سيما وأن الرئيس التركي يعتبر “الخدمة” وجولن جماعة إرهابية وأن محاولة الانقلاب كانت تستهدفه شخصيا وحكومته.

منذ ذلك الحين، قامت الحكومة التركية باتخاذ إجراءات صارمة ضد أتباع حركة الخدمة، بما في ذلك إعفاء آلاف الأشخاص من مناصبهم في الجيش والشرطة والقضاء والتعليم والإعلام، ناهيك عن اعتقال العديد من الأشخاص المشتبه بهم في الانتماء للحركة فيما هرب كثيرون للخارج تاركين كل ممتلكاتهم في تركيا، وتم فرض قيود على نشاطات الحركة وتجميد أصولها. وتدفع هذه التحديات أن يواصل أردوغان التعامل بصرامة مع حركة الخدمة وأتباعها، وربما يتخذ إجراءات إضافية لتقييد نفوذها وتأثيرها. ومن المستبعد أيضا أن يسمح بعودة أنصار الحركة إلى تركيا أو تخفيف القيود المفروضة عليها، باعتبارهم عناصر تمثل تهديدا له وللدولة.

اقتصاديا..أكد أردوغان استمرار برنامجه الاقتصادي غير التقليدي الذي تسبب في حدوث مشكلات اقتصادية وأزمات على مدى ٥ سنوات ماضية. من سوء حظ أردوغان وهو يبدأ ولايته الثالثة أن يستقبله السوق الاقتصادي بخبر سيئ، فالليرة التركية هبطت الى أدني مستوياتها في التاريخ بمجرد إعلان فوزه في الانتخابات، مع توقعات بأسوأ السيناريوهات ما لم يتمكن الرئيس التركي من إنقاذ الاقتصاد بصورة عاجلة وبحلول خارج صندوقه القديم.

ربما يخشى الأتراك مواجهة أزمة اقتصادية باستمرار التضخم (٤٣٪ حاليا) والتأثير على قدرتهم الشرائية، مما قد يدفع أردوغان البحث عن مليارات الدولارات لتطبيق إجراءات دعم الأسر والوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه خلال الحملة الانتخابية بشأن رفع الأجور ومعاشات التقاعد. وهذا يشكل في حد ذاته تحديا أمام أردوغان، فمن المحتمل أن يواجه تحديات كبيرة في إدارة الاقتصاد المتدهور، وقد يتطلب ذلك تبني سياسات اقتصادية جديدة وإصلاحات هيكلية لتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد.

وبخلاف الوضع الداخلي، يتبني أردوغان مواقف إيجابية مع الدول العربية، في ضوء السياسة الجديدة التي أعلنتها حكومته، والتي تهدف إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية وإقامة علاقات سلام مع الدول العربية. فالعلاقات التركية العربية شهدت تحسنا في السنوات الأخيرة، بعد أن ركزت أنقرة سياستها الخارجية على تعزيز الروابط الثنائية والتجارية والاقتصادية، بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي مع الدول العربية، بما في ذلك الاستثمارات المشتركة وتبادل التجارة. فتركيا تعمل على تعزيز الروابط الاقتصادية من خلال توقيع اتفاقيات التجارة الحرة وتسهيل حركة السلع والخدمات والاستثمارات المشتركة بهدف تعزيز اقتصادها ومنحه قوة إقليمية وعربية. كما تسعي تركيا إلى تعزيز التعاون السياسي والأمني مع الدول العربية في مجالات مثل مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخباراتية والتعاون العسكري، ناهيك عن سعيها لدعم الجهود الرامية إلى التسوية السياسية في المناطق المضطربة والنزاعات الإقليمية بإستثناء العلاقات مع سوريا بشار الأسد.

ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن هذه العلاقات العربية التركية، قد تواجه تحديات وتوترات بسبب الاختلافات في السياسات والمصالح الإقليمية والقضايا الساخنة في المنطقة. فتركيا تواجه بعض الانتقادات والتحفظات من بعض الدول العربية بسبب مواقفها من بعض القضايا الإقليمية المثيرة للجدل، مثل التدخل في الشأن الليبي والصراع السوري. وإن كانت مساع تركيا الأخيرة قد تدفعنا مؤقتا إلي عدم الحديث عن التحديات التي قد تواجه تركيا مع بعض الأطراف العربية بسبب التنافس على النفوذ الإقليمي والصراعات الجيوسياسية، فربما تؤثر هذه العوامل على طبيعة العلاقات بين تركيا وبعض الدول العربية، مع ضرورة ملاحظة أن العلاقات الدولية معقدة ومتغيرة، وقد تحدث تحولات في السياسات والتحالفات بناء على المصالح والأحداث الجارية.

إجمالا..أردوغان لم يستقر على لهجة واحدة منذ حملته الانتخابية وحتى بعد فوزه، فهو يتعهد باحتواء الجميع ثم يهدد بمحو المعارضة، كما أسلفنا..ثم يتعهد بالعمل خلال ولايته الثالثة على إقامة حزام أمن وسلام حول بلاده عبر سياسة خارجية تقوم على التقارب مع محيط تركيا “النجم الصاعد” بالمنطقة..فأي نهج سيتبناه أردوغان؟..تصريحاته أم سيأتي بجديد؟. فمنذ فوزه في الانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٨، يواجه الرئيس التركي معارضة قوية في تركيا، حيث حقق حزب الشعب الجمهوري، الحزب الرئيسي المعارض، نحو ٤٧٪ من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مما يشير إلى وجود قطبية سياسية في البلاد. ومن المرجح أن يواصل أردوغان تعامله مع المعارضة بشكل متقلب بين الحوار والتوتر، وربما يسعى إلى تهدئة التوتر وتعزيز الحوار السياسي في بعض الأحيان، في حين يتبنى مواقف صارمة تجاه المعارضة في أوقات أخرى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى