مقالات الرأى

محمد أمين المصري يكتب : نكسة بلد ..أم نكسة فاطمة!

0:00

مرت حياتها سعيدة بلا منغصات حتى قبل يوم الخامس من يونيو ١٩٦٧، تعيش في إحدى مدن القناة، زوجة سعيدة بزوجها وأولادها، تعيش في شقة واسعة، محبوبة من الجميع ، ولم لا ؟.. فهي إنسانة اجتماعية تحب الفرفشة والسينما وقراءة القصص! وفجأة بدأت الحرب الغاشمة والعدوان الإسرائيلي، وتغير كل شيء حول فاطمة .. ربما كان هذا خيال الكاتب الكبير الراحل إحسان عبد القدوس في روايته عن الحرب “الهزيمة اسمها فاطمة”، ولكن لا هي ولا أحد ممن حولها يستطيع أن يتصور ما يمكن أن يحدث . لا يمكن أن يحدث أكثر مما حدث في حرب ١٩٥٦، ولا أكثر مما سمعته عن أحداث الحروب القديمة.. حتى الغارات الجوية التي انصبت فوق المدينة لا تستطيع أن تتصور نهايتها، فمع كل غارة تحمل أولادها وتشد أمها وتذهب بهم إلى الدور الأرضي، وأحياناً كثيرة لا تتحرك من مكانها ساعة الغارة وتخاطب روحها “ولا يهمك يا بت .. خليها على الله” .. وزوجها لا يزال يخرج في الصباح إلى عمله ليعود في المساء.. كل شيء يمكن أن يستمر كما هو إلى أن يسكت هذا الضجيج.
ويسكت الضجيج، ومرت أيام صعبة، انتهت حرب الأيام الستة، وبدأت فاطمة تحاول أن تعود إلى حياتها العادية، أنها تسمع حكايات، وترى أشياء كثيرة تحدث في المدينة ولا تفهم شيئاً بشأنها، ولا تحاول أن تفهم، ليس من اختصاصها أن تفهم. إن قلبها يتمزق وهي تسمع الحكايات عما حدث للرجال وتبكي في صمت وهي ترى شهيداً أو جريحاً ينقلونه عبر المدينة.. ولكنها لا تفهم لماذا حدث كل هذا ، ولا ماذا كان يمكن أن يحدث بعد هذا، وجاءت المصيبة التي لم تتوقعها، وحدث طارئ، فأجهزة المدينة الرسمية تريد من السكان أن يتركوا المدينة.. تساءلت فاطمة ” لماذا .. أنه بيتي .. بيتي أنا .. لا يستطيع أحد أن يأخذني من بيتي أو يأخذ بيتي مني” . وقد أصبحت المدينة منطقة عسكرية، هم يريدون أن يحموا حياتك وحياة أولادك ، إنك هنا في انتظار الموت ، دعوني، دعوني، إنتظار الموت في بيتي أرحم من انتظاره في العراء، وزوجها يحاول أن يقنعها ، أنها لا تستطيع أن تختار ، أنها أوامر الحكومة ، ثم إنهم لن يغيبوا عن البيت طويلا، أسبوع، شهر على الأكثر.
“لا تأخذي معك إلا ما تحتاجين إليه في حياتك اليومية”..هكذا قال لها زوجها، واحست فاطمة ربما بغريزتها أن السفر سيطول فأخذت معها الكردان والسوارين الذهب . واستدعت البنت والولد، وخرجوا من البيت يتقدمهم زوجها إلى حيث تبدأ الرحلة، أين إخوتها؟.أنهم مع أولاد الجيران، وأبوها..لقد اختفى ، لا أحد يعرف أين .. قد يلحق بهم فيما بعد
ركب البعض في سيارة نقل، عشرات السيارات والناس تتزاحم ويضيع بعضها في الزحام، ووجدت فاطمة نفسها في سيارة ومعها امها والبنت والولد وزوجها، ولكن ووالدها لم يظهر بعد، وأخوتها في سيارة أخرى، إنها تستطيع أن تراهم ، ولكن بعد فترة من المسير لم تعد تراهم ، ضاعوا عن عينيها وهي لا تدري إلى أين يأخذونها، ولا تحاول أن تدري ، إن كل ما يشغل بالها هو البيت، بيتها فقط.
وانتهى بهم المطاف إلى مدرسة في قرية بالقرب من الزقازيق، وضعوها هي وعائلتها ومعهم ثلاث عائلات أخرى داخل صالة واحدة من بناء المدرسة وتركوهم ينظمون حياتهم داخل هذه الصالة الواحدة ، هي وزوجها وأمها والبنت والولد في ركن، وتذكرت فاطمة بيتها الواسع، وصمت مرير حزين يخيم على الجميع ، وأصبح هم كل أسرة من العائلات الأربعة أن تستر نفسها بستار من الخيش أو الحصير أو القماش، الحياة صعبة جداً، وبعد أسابيع قرر الزوج أن يترك المكان ويبحث عن عمل وخرج ولم يعد!! وكان أبوها قد اختفى من قبل كما اختفى أخوها بعده.

ظروفها المعيشية تزداد قسوة يوماً بعد يوم.. وفي القصة تفاصيل كثيرة عما يحدث لها ، وضاقت ولم تعد تحتمل ، وكما قرر زوجها أن يهاجر قررت هي أيضاً أن تهاجر لتبحث عن عمل، وانطلقت إلى القاهرة تاركة الولد والبنت في رعاية أمها، أنها تستطيع أن تكون خادمة أو مربية أطفال أو طباخة، لكنها تاهت في شوارع العاصمة، وفشلت في أن تجد عمل شريف و اضطرت تحت ضغط الحاجة أن تبيع جسدها مقابل المال ، وضميرها يصرخ إحتجاجا، قاومت حاضرها وتذكرت ماضيها، وظلت تقاوم .
تعكس قصة “الهزيمة اسمها فاطمة” تفاصيل الأحداث قبل وبعد نكسة يونيو ١٩٦٧، كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قد سعى إلى تحقيق وحدة عربية وتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي. وقبل الحرب بفترة قصيرة تصاعدت التوترات بين مصر وإسرائيل وانتهت بالنكسة على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وكان للنكسة انعكاسات عميقة على مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي والفكر القومي العربي بقيادة عبد الناصر. كما أثرت على شرعية نظام الحكم في مصر والبلدان العربية الأخرى. وامتدت آثار النكسة ٦ العسكرية، سنوات تقريبا، ولكن الآثار الطويلة الأمد لهذه الهزيمة لا تزال تلقي بظلالها على الواقع السياسي والاجتماعي في المنطقة حتى يومنا هذا. فهي شكلت نقطة تحول مهمة في تاريخ مصر والعالم العربي.
إن نكسة يونيو ١٩٦٧ كانت حدثا مؤلما في تاريخ مصر والعالم العربي، ومهما كانت النتيجة فثمة دروس وعبر يمكن استخلاصها ومنها أهمية التحضير العسكري والاستراتيجي، فحرب يونيو أظهرت ضعف التحضير والاستعداد العسكري للجيوش العربية مقارنة بالجيش الإسرائيلي، هذا دفع إلى ضرورة الاهتمام الأكبر بالبناء العسكري والاستراتيجي. كما كانت الهزيمة نتيجة لغياب التنسيق والتكامل بين الدول العربية، مما أبرز أهمية تحقيق الوحدة والتعاون العربي لمواجهة التحديات المشتركة.
كما أبرزت النكسة أهمية الدبلوماسية والسياسة الخارجية، حيث لعبت الدبلوماسية المصرية دورا غير محدود في إدارة الأزمة خاصة قبل مبادرة روجرز، وهذا يؤكد ضرورة بناء قوة دبلوماسية فاعلة تخدم المصالح العربية.
ومن الآثار الاجتماعية للنكسة ما كشفته من ضعف البنية التحتية والاقتصادية، مما أكد أهمية التركيز على التنمية والبناء الداخلي لتعزيز قوة الدول العربية.ومن الدروس المهمة لنكسة يونيو، أنها كشفت لمصر والعرب أهمية البحث العلمي والتكنولوجي، إذ أظهرت الحرب تفوق إسرائيل التكنولوجي والعلمي على الجانب العربي، مما يؤكد ضرورة الاستثمار في البحث العلمي وتطوير القدرات التكنولوجية للدول العربية.
وبغض النظر عن السلاح الأمريكي الذي استخدمته إسرائيل في الحرب، فكان حريا على مصر والعرب ضرورة الاعتماد على الذات، عندما اتضح اعتماد الجيوش العربية على الدعم الخارجي والأسلحة الأجنبية، مما أظهر أهمية الحاجة إلى تطوير قدرات الصناعات العسكرية العربية والاعتماد على الذات.

ونأتي إلى نقطة مهمة جدا وهي أهمية الإعلام والتوعية الجماهيرية، حيث لعب الإعلام دورا مهما في تعبئة الرأي العام والشعوب العربية، والحفاظ على الروح المعنوية والإرادة السياسية، رغم أنها شبه انهارت في البداية ولكن سرعان ما عادت الروح المعنوية للجيش والإرادة السياسية لمواجهة التحديات.
لم يعلم الكاتب ا لراحل إحسان عبد القدوس هل عادت فاطمة إلى بلدتها أم ظلت ضائعة في القاهرة، وهل نسيت أولادها وأسرتها أم التئمت الأسرة مجددا ومعها الجد والأب، ولكن المؤكد أن مصر عادت إلى نفسها بعد ٦ سنوات من النكسة لتبدأ الحياة من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى