مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: دستور اللصوص!!

0:00

يتندر البعض منا ويقول: (فين أيام السرقة زماااان، كانت سرقة وسطية، وكان الحرامي له كلمة وعنده مبدأ)!! وما يدري أن ذلك حقيقة، وأن اللصوص كان لهم دستور، فهم لا يَسرقون إلا من يستحق السرقة برأيهم، كتاجرٍ لا يُخرِجُ زكاة مالِه، بل ويستغل الناس!! وهم لا يَسرقون صاحبَ فضلٍ عليهم أو مَن بَينه وبينهم (عيش وملح)، فهم لا يَعَضُّون يدًا مُدَّت إليهم، وطبطبت عليهم!!

ترى ذلك واضحًا فيما رواه القاضي التنوخي (من قضاة وأدباء القرن الرابع الهجري) عن أبيه _ وكان قاضيًا كذلك _ أن لصوصَ البحر خرجوا عليهم ولما استسلمَ القاضي الأبُ ومَن معه، وبدأ اللصوصُ في سلب ونهب السفن، أقبل رئيسُ اللصوص على السفينة التي كان يقبع فيها القاضي الأب، فتأمله ثم انكبَّ على يدِه وقبَّلها، ومنعَ أصحابَه مِن نهب السفينة، ورَدَّ إليه أموالَه ثانيةً؛ ذلك أن رئيسَ اللصوص كان حاجبًا للقاضي ورُبِّيَ في دارِه صبيًّا، وكان القاضي يَحمِلُه على عُنُقِه ويُطعِمُه بيدِه _ كما ذكَّره رئيسُ اللصوص _، لكن القاضي سأله: ما الذي حمله على ذلك؟! وكان الرد: أنه لما جاء بغداد ولم يكن يعلم غيرَ مُعالجة السلاح، أراد أن يعملَ في وظيفةٍ حكومية، فلم يُقبَل، ولم تكن لديه واسطة، ولا يَقدر على دفع رشوة مناسبة، فالتحق بهؤلاء الرجال وصار قاطعَ طريق، ويقول للقاضي: ولو كان السلطانُ أنصفني ونزَّلني بحيث أستحق من الشجاعة وانتفع بخِدمتي، ما كنتُ أفعل ذلك بنفسي!! وإكرامًا للقاضي، منع أن يُؤخذَ شيءٌ من باقي السفن، وردَّ على قومٍ ضعفاءَ أشياءَ كثيرةً كانت قد أُخذت منهم!! ومن تمام الأدب أن اللصوصَ أمَّنُوهم وساروا معهم حتى وصلوا إلى مكانٍ آمِن!!

وفي بغداد عُرِف (ابنُ حمدي) الذي لُقِّبَ بـ (لصّ بغداد الشريف)، ويقولون إنه كان فيه فُتوةٌ وظُرْف، وإنه كان إذا قطعَ الطريقَ لم يَعْرِضْ لأربابِ البضائعِ اليسيرة التي تكون دون الـ (ألف درهم)، وإذا أخذَ شيئًا مِمَّن حالُه ضعيفة، ترك له نصفَه، وإنه كان لا يُفتش امرأة، ولا يَسلبها!! أُعجِب عامةُ الناس بـ(ابن حمدي)، حتى تعصبوا له، وقد عجزت الدولةُ عن مطاردتِه، فخَطَبَتْ وُدَّه، على أن يؤديَ للسلطان في كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يَسرِقُه وأصحابه _ بإيصالاتٍ رسمية _ في مقابلِ إطلاقِ يدِه في جبايةِ القوافلِ التِّجارية الواردةِ على أسواق بغداد!!

الفسادُ كُلُّه مُدانٌ بالتأكيد، والفاسدُ أو اللصُّ لا يُمكن التعاطفُ معه، لكنّ فاسدِي عصرٍ جعلونا نترحم على فاسدِي عصرٍ آخر، أو كما يحلو للبعض أن يتحسرَ على زمنِ الفساد الجميل، ويُقدِّمَ احترامَه للحرامي!!

زر الذهاب إلى الأعلى