منوعات وسوشيال

أحمد الشهاوى يكتب: كمال عبد الحميد ..شاعر بمئة رأس

بوابة "مصر الآن"

0:00

ليست مصادفةً أن يذهب الشَّاعرُ المصري كمال عبد الحميد  إلى الشَّاعر الياباني ماتسوباشوأستاذ فن الهايكو الياباني الشعريالذي عاش في القرن السَّابع الميلادي (1644-1694 ميلادية) ليقدِّم القسمَ الأولَ من ديوانه الشعريندم المشيئة.. مادبَّرْتُه لنفسي مننهايات، فالشاعران فضَّلا حياة العزلة، باشو في يابانه، وكمال في مُغتربه الذي طالالإمارات، باشو أطلق على مكان عزلته «صومعة شجرة الموز»، بينما كمال عاش يدبِّرلنفسه نهايات الموت بعيدًا عن الأهل والمكان الأول في صعيد مصر، مُتدثِّرًا بالخيباتوالهزائم والأحلام المتوارية. باشو عاش متأمِّلا مترحِّلا بعدما درَسَ مذهب الزن البوذي،وكان آخر ما خطَّته يدُهُ أثناء إحدى رحلاته، و في الليلة الأخيرة من حياته:

مريضٌ وقت ترحالي

وأحلامي تتجوَّلُ طافيةً

في الحقول الذابلة

وهو المقطع الشِّعري الذي قدَّم به كمال عبد الحميد القسم الأول من ديوانهأمشي مأهولابعويلٍبضمير المتكلم، والمتكلم هنا هو أنَا الشَّاعر، ولكنه لم يظهر مُتصلاً أو منفصلاً،لكنه في الحقيقة مُتصلٌ بروحه المُتعبة.

وعنوان هذا القسم يعارضُ عنوان الكتاب الشعري لقاسم حداديمشي مخفُورًا بالوعُولالذي صدر سنة 1990 في لندن عن دار رياض الريس، وفي هذا الديوانيكشفُ قاسمحدَّاد عن نفسٍ بلغ الحزن منها مبلغاً باهظا ، ودفع بها السؤال الوجودي نحو مشارفعلى هاويات تبدو لشعره مستقر الكائن، ومستقبله“.

عاش كمال عبد الحميد سنواته الأخيرة مُتقشِّفا مُستغنيًا، مُتدرِّبا على الزُّهد كأنه يسيرُكـباشوعلى خُطى الرهبان الشعراء، وهو  الذي ماتفي غرفةٍ مُستأجرةٍ بشارعميدوسوجي بأوساكا في 28 من نوفمبر سنة1694ميلادية“.

وإذا كان باشو يصغي إلى الطبيعة والأشياء من حوله فإن كمالالذي رُوحه على سفرٍيصغي إلى نفسه التي عانت، وإلى رُوحه التي شردت ونأتْ وانقسمت بل وتشظَّت؛ حتىأدركها العطفُ الإلهيُّ:

ذهبتُ إلى حافَّةِ البحرِ لأصرخ

كي لا أقتلَ نفسي

رميتُ أشياء كثيرةً خلف ظهري

نصُّ كمال عبد الحميد هو نصٌّ يختزلُ سيرةَ الشَّاعر العاشق في لغةٍ دالةٍ ومُوحية كأنهيسطرُ الجملةَ الأخيرةَ في حياته، حيث يكتبُ نهاياتِه وهو يحتضرُ مقاومًا موتًا في الأفق،راثيا ذاتَه، مُعاتبًا  رفيقة الرحلة:

عرُوشُ النساء الزائلة/ اللاتي أدرِّبُهن بروحي/ لأجل رجالٍ آخرين، بعدما عاش الرعب ولميستطع ردَّه.

في كتابته هذه يحملُ كمال عبد الحميد أسرارَ اللغة التي خزَّنها في بيت مُخيلته؛ كييخلقها من جديدٍ خاليةً من الحشو والثرثرة والإطناب وينزلُ عن كتفيها  ما ثقل، بحيثيجعلُ متلقيه مشدُودًا بخيطٍ غير مرئي، مدهوشًا ومحمُولا على موج الوجع والألم المقيم،لغة تشبه حياته:

أنا أشبهُ الزجاجاتِ الفارغةَ التي يشربُ أرواحَها أصدقاءٌ حزانى، ثم يلقون بها غاضبينَتحت أقدامهم

كمال عبد الحميد فيما كتب يقولُ لنا إنَّ الحياة مهما تطل فهي قصيرة، وإنها مجرَّد فرصةعابرة علينا انتهازها أو قنصها:

سأطلبُكِ بالاسمِ

كلما دخلتُ ميتةً جديدةً

سأكونُ للأبدِ جائعًا

وعطشانَ إليكِ

حتى القصيدة

التي أظنُّها امرأتي آخر الليل

لو تأتينَ

سأدعُها تنامُ على الأرض

هي تحبُّ الأرضَ

فعلاً، قصيدة كمال عبد الحميد هي ابنةُ الأرض المُشمسة النائية، ابنةُ التراث والتاريخالقديم والهجرات والموت المُؤجَّل، أو الذي يمشي على رأسه جائلا في الشَّوارع والأزقة،حيثُ إنَّ قصيدته تأتي مُتأملةً في العوالم والأشياء ومن قبلهما النفس المُنكسرة، التيهزمتها الأيام، مُكثَّفةً تنتصرُ لاسمه الذي ينشدُ التَّمام حتى في جحيمه.

كمال عبد الحميد شاعرٌ ذو حساسية عالية تجلت في هذا الكتاب الشِّعري أكثر من كُتبهالشعرية السابقة؛ فهو هنا متمكنٌ ومسيطرٌ على لغة باطنه، ومعبِّرٌ عن حاله التي داسهاالزمنُ بلا استمهالٍ، كما أن يدَ الغدر لعبت لعبتها بحُريَّةٍ مستباحةٍ. فقد استكشف المناطقَالغامضةَ والسحرية والبعيدة في ذاته، واستخرج ما كان عصيًّا أو مُراوغًا على الكشف. فنحن أمام حدُوسٍ وإدراكاتٍ وأفكارٍ تشكِّل جميعها جزءًا من فسيفساء سيرة الشاعروأحواله. ذلك الشَّاعر الذي لا يريد أن يكون خالدًا أو خزانة لعزرائيل.

يسأل الشاعرُ في نهاية النصِّ الأخير من القسم الأول من كتابه الشعريندم المشيئة.. مادبَّرتُه لنفسي من نهايات“:

لماذا يأتي كلُّ شيءٍ ناقصًا ومتأخرًا؟

سألتُ أبي في موتِهِ فقال:

بالتجربةِ والوقت

يتحايلُ القرويون على البقاء

وتخفُّ نسبةُ السذاجةِ على الأرضِ

وتصبحُ غابةً

….

وكان كمال عبد الحميد قد أصدر عمله الشعري عام 2005 (تمام الجحيم) عن المكتبالمصري للمطبوعات بالقاهرة، وفي العام التالي 2006 أصدر كتاباً نثرياً عنوانه (لا يدخلالليل إلا وحيدا) أيضا عن المكتب المصري للمطبوعات. وفي عام 2008 صدر كتابه الشعريالثاني  (الوسيلة المتاحة للبهجة) عن مؤسسة الانتشارالعربي  في بيروت. وعن دار الأدهمبالقاهرة صدرت مجموعته الشعرية الثالثة (عاطفة قاسية تلوّح بالعصا) عام 2014، وفيالعام 2015 صدر له مجموعة من النصوص بعنوان (نظرة أخيرة على أصابعي) عن دارالعين للنشر بالقاهرة، وفي 2016 صدرت له مختارات شعرية باللغة الإنجليزية عن دارنشرترافوردالأمريكية تحت عنوان Immortality with a Kiss on the Neck أو(الخلود بقبلة على الرقبة).

وعن دار (ميتافورا) للنّشر والترجمة في القاهرة، صدرت المجموعة الشعرية الرّابعة لكمالعبد الحميد، وعنوانها (ندم المشيئة)، متبوعاً بعنوان فرعي (ما دبَّرْتُه لنفسي من نهايات).

وجاءت المجموعة في 112 صفحة من القطع المتوسط، وقسمها الشاعر إلى أربعة أقسامرئيسة هي على التوالي: (أمشي مأهولًا بعويل)، و(ليس للألم بيت)، و(الشجرة الواقفةبي)، والرابع هو (الحزن هبة الآلهة)، وجاء في صورة سردية، كما لو كان تعليقاً علىالأقسام الثلاثة الأولى.

…..

نقلاً عن مجلة نصف الدنيا– 24 نوفمبر 2022

زر الذهاب إلى الأعلى