مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: خطبتان عن “الفلانتين” و”السناجل”!

الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الكامل المتكامل، الذى أحلَّ الفضائل، وحرَّم الرذائل، وأراح بالَ “السناجل”، ثم أمَّا بعدُ. فسوف يحتفل بعد بضعة أيام بعيدهم “السناجل”، وهم مجتمعٌ – لا شك- عاقل، فطنوا للحقيقة، ولم يفعلوا مثل كل مرتبط متخاذل. فيا أيُّها السناجل، كل عام وأنتم بعقلكم كامل، فلا تفرطوا فى حريتكم، مهما كان المقابل. فلعنة الله على كل لذةٍ تتبعُها مشاكل، أو تتلوها أعباء تثقل الكاهل. المرتبطون أمواتٌ، فإذا “تسنجلوا” انتبهوا.
على مر التاريخ.. الناجحون هم “السناجل”، النابهون هم “السناجل”، الأصحَّاء هم “السناجل”، المُعمِّرون هم “السناجل”، الأوفرُ مالاً ورزقًا هم “السناجل”، فهم – وأيمِ اللهِ- شعبُ الله العاقل، لم يشغله التواصُل، ولم يبحث عن التناسُل، فى مجتمع يضيق ذرعًا بأبنائه، وتفكر نائباته فى إخصاء رجاله الكوامل. فيا كل فتاة عاقلة وفتى عاقل، “تسنجلوا تصحُّوا”، فإن تسعة أعشار العافية فى “السنجلة”، وعشرة أعشار الصحة فى “السنجلة”. أيها السناجل، عيشوا حياتكم، استمتعوا بكل لحظاتها، حققوا ذاتكم، اصنعوا نجاحكم، خلدوا أسماءكم أولاً، فإن أردتم أن تُنهوا حياتكم، وسئمتم راحة البال، فودِّعوا مجتمع “السناجل”، وحينئذٍ لن تلوموا إلا أنفسكم التى قادتكم إلى حيث النهاية العاجلة والمؤكدة!
يا كل “سنجل” ويا كل “سنجلة”..املأوا الأرض والفضاء، بتراتيل السلام، املأوا الصدور والقلوب، بآمال السلام، وحب الحياة، وتحقيق الأحلام. ويا كل “سنجل”، ويا كل “سنجلة”.. لا تهنوا ولا تحزنوا؛ فليس هناك أغلى من الحرية ثمنًا، وما الارتباط إلا سجن افتراضى، ومٌعتقل بلا أسوار. ويا كل “سنجل”، ويا كل “سنجلة”.. حافظوا على عقولكم، واحفظوا قلوبكم، ولا تجعلوها تميل كلَّ الميل، ولا تخضعوا بالقول ولا بالفعل. “السناجل” فى مأمن إن تجاوزوا، ومَن سواهم مرجومون إنْ أخطأوا . “السنجلة” لا تعني وحدة أو عزلة، فما أكثر المرتبطين الذين يعانون من الوحدة والعزلة، ومن الخيبة و”الوكسة”. من الوحدة قد تكون بطلاً، ومن العزلة قد تصير اسمًا، ولكن بالارتباط، لن تكون إلا صفرًا على الشمال، إلا مِن رحم الله، وهم يومئذ قليلٌ.. أقول قولى هذا وأستغفر الله لكل من ترك “السنجلة” طواعية و ذهب إلى التهلكة اختيارًا، ودامت أيام “السناجل” بكل سرور وخير وسعادة..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على كل بلاء وابتلاء، ونسأله سبحانه أن يُحسن مأوى “السناجل”، ويغفر لكل من شغل قلبه ووجدانه بتوافه الحب وسهر لياليه..ثم أمَّا بعد:
ربما لو استقبل “عنترة” من عُمره ما أدبر لما خاض الوغى من أجل “عبلة”، وربما لو جلس “جميل” فى نهاية عمره مع نفسه لسخر منها وازدراها؛ لأنها انشغلت بنظم القوافي في حب “بثينة”. وربما لو فكر “قيس” قليلاً ما سهر الليالي فى عشق “ليلى”. وربما لو أعاد “عمرو بن كلثوم” حساباته قبل الرحيل لعاد إلى رشده وامتنع عن التحرش العنيف بالنساء في أشعاره وفي حياته. ومن أجل ذلك..ربما يصبح “فتحي قورة” أكثر ذكاءً من هؤلاء جميعهم، عندما نظم أغنية “ابعد عن الحب وغني له” في ستينيات القرن الماضي، محذرًا فيها من الوقوع في “براثن الحب” و”أفخاخ الغرام” و “أكمنة الهوى” و”شِباك الغرام”، وتلك عقيدة راسخة عند “مجتمع السنجلة”!
استوحى “قورة” عنوان أغنيته من المثل الشائع: “ابعد عن الشر وغني له”، فكأنما قصد الشاعرُ الربط بين الحب والشر، باعتبارهما يقودان إلى طريق واحد ونهاية محتومة ومصير غير مأمون.
الأغنية -التي لحَّنها منير مراد وغنَّاها عادل مأمون- تقول كلماتها: “ابعد عن الحب وغني له/ وإن فات عليك إياك تنادي له/ خليك زيِّنا في حياتنا هنا/ لا خدنا منه ولا بنديله، قبل أن تُحذر فى مقطع تالٍ من الافتتان بالجمال المادي مهما كان لافتًا وطاغيًا؛ فمصيرُه إلى الاعتياد ثم الزوال: خلي العيون السود وأصحابها والحب بعيد/ واسأل عليها اللي مجربها وأساه بيزيد/ ده ياما شاف الويل في غيابها وعيونه صعبت على منديله”.
يعدد الشاعر إيجابيات الإقلاع عن العشق والهوى وسهر الليالي والانضمام إلى معشر “السناجلة” بقوله: “ما أحلى الحياة بالقلب الخالي مين طايل مين/ بتنام عينيا ويرتاح بالي من شوق وحنين”!
تعتبر الأغنية الحب ضياعًا للعمر والغرام وإهدارًا لفترة الشباب التي يجب أن تذهب في أمور أكثر جدية وأهمية من: حرام يضيع في الحب شبابنا ليه نجني عليه/ وليه نجيب بإيدينا عذابنا راح ناخد إيه/ ترتاح قلوبنا ونقفل بابنا والحب لا يجيلنا ولا نجيله..إنها “السنجلة” الحقَّة بكل تجلياتها.
ومَن التزموا بالنصائح الغالية والثمينة التي تتضمنها هذه الأغنية –مثل السناجل- لا ينشغلون بالاحتفال بطقوس عيد الحب العالمي الذي يحل فى الرابع عشر من شهر فبراير، ولا عيد الحب المصري الذي يتزامن مع الرابع من نوفمبر، ولا يتزاحمون على أكشاك الورد ولا متاجر الهدايا، وسوف يعودون إلى منازلهم فى هذين اليومين تحديدًا مطمئنين بالاً وقلبًا، لن تزعجهم عبارات النقد وألفاظ التأنيب وكلمات العتاب الثقيلة، والمقارنات الهلامية والهزلية، متذكرين فى نشوة الانتصار دائمًا أن الفارق بين عيد الحب وعيد الأضحى هو الخروف! التاريخ ينحاز لمن أبرموا ميثاقًا غليظًا مع “العزوبية” وينصف من أخلصوا لـ”السنجلة”، حيث خلَّدهم فى سجلاته وأبقى على سيرتهم فى دفاتره، ومن هؤلاء: إسحق نيوتن، ديكارت، سبينوزا، فولتير، جان جاك روسو، كانط، كيركيجارد، نيتشه، ستندال، بلزاك، فلوبير، بودلير، رامبو، رينيه شار، بيتهوفن، ابن النفيس، أبو العلاء المعري، ابن تيمية، ابن القيم والنووي..وغيرهم كثيرون جدًا، ولو أن كل واحد من هؤلاء “السناجل” انشغل بالحب والغرام وسُخف الكلام لطوتهم يد النسيان ولم يتركوا أثرًا واحدًا يخلذ ذكراهم. وفى عيدي الحب العالمي والمصري وفي يومهم الذي يحل في الحادي عشر من الشهر الحادي عشر في العام الميلادي، لا نقول إلا طوبى لـ”السناجل” العظام الكرام الذين ابتعدوا عن الحب وغنوا أو لم يغنوا له، أمَّا العاشقون المُغرمون الغارمون البُلهاء..فلا أراكم الله مكروهًا فى رومانسي لديكم..

زر الذهاب إلى الأعلى