مختار محمود يكتب: الإعلام الذي خرج ولم يعد
هناك إجماعٌ بين أولي الألباب والأفهام على أن الإعلام المصري يعيش أسوأ حالاته؛ بعدما تخلى عن ضوابطه وأعرافه وأحكامه وتقاليده، وانبطح أمام رأس المال الخاص: وافدًا كان أو محليًا، ولكل صاحب رأس مال وجهةٌ هو مُولِّيها، وأجندة يرغب في تطبيقها.
ربما كان منطقيًا أن يضيف “المال الكثير” إلى الإعلام ويرتقي بمستواه، ولكن ما حدث في مصر هو العكس تمامًا؛ حيث اصطحب هذا المال السخي الإعلام المصري إلى هوة سحيقة بلا قاع.
المفارقة الأغرب أن التراث الإعلامي المصري الخالد بشقيه: الإذاعي والتليفزيون تم تصنيعه وإنتاجه بأقل القليل، ويميزانيات محدودة جدًا، وكانوا فيه من الزاهدين!
على وقع هذا التردي الإعلامي المخزي، وتحت عنوان: “المشهد الإعلامي المعاصر..الأزمة والحل”، نظّم ملتقى “السرد العربي” بهيئة خريجي الجامعات بوسط القاهرة يوم الاثنين الماضي ندوة مختلفة شكلاً ومضمونًا، أدارها باقتدار الإذاعي الكبير إبراهيم خلف، وتحدث فيها عن فهم ودراية وعلم وخبرة واسعة الإعلاميان البارزان: تهامي منتصر والدكتور مصطفى عبد الوهاب، قبل أن ينضم إليهما لاحقًا الناقد والأكاديمي المعروف الدكتور حسام عقل، وهو مؤسس ورئيس الملتقى.
قبل الخوض فيما جرى من تفاصيل وأطروحات جادة..يجب الإشارة -ابتداءً- إلى أمرين مهمين:
الأول: أن هذا الملتقي لم يكن كغيره من الملتقيات الأخرى التي يحضرها كائنات متحفية؛ لتطرح افتراضات وهمية بُلغةٍ ساقطةٍ تقودها إلى توصيات هلامية، ثم ينفض المجلس وكأن شيئًا لم يكن.
الثاني: اللغة العربية الرصينة التي تحدث بها الحضور من البداية إلى النهاية؛ ما يشعرك أنك أمام قامات إعلامية وفكرية سامقة وعقول شامخة تجسد ثروة هائلة، لكنها مُهملة، في مقابل إعلام زائف، تقوم دعائمه على الضعف والوهن و”الترند”، وهو -في مُجمله- أوهن من بيت العنكبوت.
في البداية..حرص الدكتور مصطفى عبد الوهاب على تصويب بعض المصطلحات؛ مؤكدًا أن ما نعيشه حاليًا ليس إعلامًا مهنيًا، بل إعلامًا دعائيًا، يقوده أشخاص لا علاقة لهم بالإعلام من قريب أو بعيد، ولكنهم هبطوا عليه بـ”البراشوت” على حين غفلة!
زمنيًا..نوَّه “عبد الوهاب” إلى أن الضعف بدأ يضرب أوصال المنظومة الإعلامية في تسعينيات القرن الماضي، عندما تسلل إليها المال الخاص، ثم توالت الضربات واحدة تلو الأخرى مع دخول التمويل الخارجي الذي استهدف تقزيم القوى الناعمة المصرية، وهو ما يمكن التأكيد على أنه نجح ولا يزال ناجحًا في تنفيذ مخططه الآثم.
ينزع “عبد الوهاب” عن نفسه رداء التشاؤم بشأن عودة الروح إلى ماسبيرو من جديد، مؤكدًا أن هذا ليس مستحيلاً، بل ممكنًا، ولكن إذا خلصت النوايا وصدقت الضمائر..فسُبحان مَن يُحيي العظام وهي رَميم.
أمّا الكبير قدرًا ومقامًا وتاريخًا الأستاذ “تهامي منتصر”، فتحدث واثقًا مقتدرًا متمكنًا من ناصية اللغة ومُطوعًا إياها، مشددًا على أن الإعلام هو خط الدفاع الأول والحصن الحصين للشعوب قبل الدبابة والبارجة والصاروخ، وإهماله يقود إلى عواقب وخيمة لا يُحمد عُقباها.
“منتصر” أكد أن الإعلام يؤثر في العقل والروح بما يقدم من محتويات لا تتصادم مع الأخلاق والأعراف والدين، ولا تنال من عزيمته، مشددًا على أن الإعلام يتقدم على ما سواه من أسلحة معنوية ومادية؛ لأنه يُغير المفاهيم والسلوك ويُرسِّخ للوطنية والانتماء؛ ولذا طالب الجنرال الفرنسي “شارل ديجول” في بداية حكمه بالميكروفون، عندما قال: “أعطني ميكروفونًا وأنا أغيِّر الشعب الفرنسي” !
تحدث “منتصر” أيضًا عمّا أسماه “هجمة لأموال مشبوهة”؛ تهدف إلى إسقاط مصر في تعليمها وإعلامها وفنها ومجتمعها وأسرتها، في ظل تعتيم وصمت من بعض الأجهزة المعنية، بما يعني “غضَّ الطرف” عن المشروع الخليجي-الأمريكي لإسقاط مصر الأم العظيمة المُربية والمُعلمة والحاضنة لهم في أيام ضنكهم وفقرهم وجهلهم، وكأنهم نسَوا حظا مما ذُكروا به، فموَّلوا قنواتٍ ومواقعَ هدَّامة وتافهة تقدم أنماطًا من الحمقي الجهلاء تحت مسمي “مذيع”، وأفلامًا ومسلسلاتٍ وبرامجَ رسَّخت في وعي الشباب البلطجة والإدمان والسطحية والجهل واللا انتماء.
ولأنه أحد أبنائه الكرام البررة..تطرق “منتصر” إلى “ماسبيرو، مشددًا على أنه يجسد الأمن القومي الحقيقي لمصر؛ بما يملك من خبرات إعلامية حصيفة مدربة ومؤهلات وطنية لدي كل المشتغلين به، ومؤكدًا أن إقصاءهم لصالح من وصفهم بـ”جوقة من المنافقين المتربحين اللاهثين خلف الريال والدولار” جريمة لا تُغتفر.
واختتم “منتصر” كلمته الجامعة المانعة بالتأكيد على أن “إضعاف ماسبيرو حتي السقوط جريمة مكتملة الأركان في حق مصر التي تستحق إعلامًا يقود الدنيا إلي بر السلام والأمان”، مؤكدًا ثقته في قدرة ماسبيرو علي التعافي والعودة للمنافسة والتفوق إذا ما توفرت الإرادة السياسة، وتقدم المال الوطني الخالص بعيدًا عن الانتهازية؛ للمشاركة في عودة الإعلام المصري للرياد. .فهل يمكن أن يحدث هذا قريبًا؟!