مقالات الرأى

محمد أمين المصري يكتب : بركاتك..شيخ رفاعي وشيخ مبروك وعم نوفل

لم يسلم موسم درامي في رمضان من النقد وسهام المعارضين، ويرصد المجتمع المصري هذه الحالة كل رمضان تقريبا، فغالبا من تنشر الصحف انتقادات فئة محددة في المجتمع لتعبر عن غضبها واستيائها من عمل درامي تناول وظيفة هذه الفئة، فمثلا لو تناول عرض درامي حياة شخصية لطبيب بطريقة لم تلق استحسانا من الأطباء، فسرعان ما يلجأون الى القضاء لوقف بث العمل الدرامي.

والتاريخ ملئ بمثل هذه القضايا، وأتذكر نقابة المرشدين السياحيين عندما انتفضت في أحد المواسم الرمضانية وطالبت بوقف المسلسل الذي ربما مس الحياة الشخصية لمرشد سياحي وليس طبيعة عملهم الأساسية، وهكذا الحال مع معظم فئات المجتمع تقريبا، فلو الشخصية التي يتم تجسيدها تكون لصحفي فاسد، فسرعان من ينقلب الصحفيون على المسلسل أو الشريط السينمائي (محل الإساءة).

الجديد في رمضان الحالي يأتينا من السودان الشقيق، بسبب مسلسل (ود الملك) الذي يجسد فيه البطل شخصية الشيخ الرفاعي، ‪وهي شخصية دينية فاسدة، والدين ليس فاسدا بالطبع ولكن ليس بالضرورة أن يكون رجال الدين أنقياء ومن الأخيار، فالشيخ مثل غيره من البشر إنسان معرض للخطأ والخطيئة والانجرار وراء الموبقات، فهو قد يترك لأهوائه العنان، وفي هذه اللحظة هو مغيب تماما عن الدين وتعاليمه التي يعلمها للآخرين، والشيخ أو رجل الدين ليس بالضرورة أيضا أن يكون واعظا تقيا ويعمل كما يقول، فكثيرا ما نجد شيوخا ينطبق عليهم قول “يقولون ما لا يفعلون”، و هذا لكون الشيخ إنسانا وبشرا وليس شرطا أن يكون سويا، فأمرؤ السوء صفة تشمل الجميع وليس معصوما منها سوى الأنبياء.

مسلسل (ود الملك) يشهد حملة غاضبة من قبل الإسلاميين بالسودان لمجرد أن تناول فساد الشيخ الرفاعي، وقاد تياران من الشيوخ الهجوم وحملة النقد الشرسة ، الأول هم أنصار التيار الإسلامي السياسي الذي حكم السودان إبان حكم الرئيس المعزول عمر البشير الفاسد لمدة ٣٠ عاما، والتيار الثاني من رجال الدين أنفسهم غير المنتمين لأي تيار سياسي. الفئة الأولى اعتبرت المسلسل وفساد شيخه، إشارة الى ملفات الفساد في عهد البشير وأعوانه الإسلاميين، ومن ثم الربط بين شخصية “الشيخ الرفاعي” في المسلسل وبين أنصار البشير الإسلاميين، ولكن التيار الآخر اعتبر شخصية الشيخ الرفاعي صورة مشوهة لرجال الدين والملتحين بشكل عام مما أغضبهم، فأغرق الطرفان مواقع التواصل الاجتماعي باستنكارهم تصوير رجال الدين بالشخصية الفاسد.

لم يتعرض المعارضون للعمل الي حبكته الدرامية والطرح الاجتماعي له، وركزوا حربهم على شخصية رجل الدين الفاسد، وهو ما لم يعتده المشاهد السوداني، خاصة وأن رجل الدين يحظى باحترام ومحبة وثقة عمياء بين عامة الشعب السوداني وفي كل مكان تقريبا، ومن ثم تسبب الشيخ الرفاعي في تشويه هذه الصورة النمطية عن رجال الدين التي تشوهت كثيرا خلال حكم الإسلاميين في السودان الذي انتشر فيه فساد رجال الدين ولم يعاقبهم القانون وقتها لأنهم كانوا فوق القانون وقتذاك وتحت حماية السلطة المطلقة لحزب المؤتمر الوطني الذي كان وصيبا علي كل السودان. واستعاد السودانيون من الذاكرة أحداثا مريرة كان أبطالها شيوخا وقتها في عهد البشير، منهم إمام مسجد تلقى عفوا رئاسيا بعد إدانته قضائيا باغتصاب فتاة تحت التخدير، وصدر بحقه حكما بالسجن والجلد. وهناك القيادي الإسلامي المتهم بـ”الزنى|” بـ4 فتيات في نهار رمضان، ثم تم تم إعادته لوظيفته بمجرد انقضاء “العزل” عن الوظيفة العامة، والذي أصدرته المحكمة ضده.

شخصية “الشيخ الرفاعي” تجسد المفارقة بين شكل رجل الدين التقليدي وأفعاله، ولو شئنا الدقة لقلنا لوضعناهم في خانة “يقولون ما لا يفعلون”، فسيدنا الرفاعي فاسد مولع بالمتع الدنيوية ويحظي بكل الرفاهية للرجل العادي وليس للشيخ الذي يفترض أن يتنزه عنها أو الإتيان بها، ولكن الرفاعي يلهث وراء المتع الدنيوية بثوب ديني، ثم يسعى من ناحية أخرى – وبتطرف لافت – أن يبدو بمظهر رجل الدين التقليدي الذي ينتقد سلوك المجتمع بفظاظة، بحثا عما يستر ما يفعله في الخفاء . ربما أراد كاتب القصة تشبيه الشيخ الرفاعي برجال الدين أيام البشير خاصة الأثرياء منهم ، وهؤلاء هم الذين قادوا في البداية حملة تأليب المجتمع السوداني على مسلسل (ود الملك) وشنوا الهجمات على العمل الدرامي مستخدمين وسائل التواصل الاجتماعي.

كما سبق وقلنا، فالحملة ضد (ود الملك) – كما صورها تقرير لصحيفة الشرق الأوسط – عاتية وممنهجة، رغم أن شخصية الشيخ الرفاعي ليست عجيبة أو فريدة من نوعها، فهي شخصية نمطية توجد في أي مجتمع، ولكن المواطنين هم الذين يرفضون تصديق أو قبول هذه الشخصية الفاسدة لرجل الدين، فالشيخ الرفاعي ربما نراه أمامنا بالفعل ولكننا نرفض من داخلنا الاعتراف بوجوده، وللأسف يصعد الشيخ الرفاعي المنبر ليبث مواعظه للمصلين الذين يرفضون إلصاق أي تصرفات مشينة به، فهو يأتي بتصرفاته الحقيقية خارج المسجد طبعا.. لا ننكر أن أي مجتمع يمر بمثل هذه الحالة، ولكن لا يجب أن نضفي على رجال صفة “القداسة” ، فمنهم من يخطئ، وعليه الاستغفار والتوبة، ونحن هنا لا ننكر الدين ولكن ننكر تصرفات رجل الدين.

وفي مصر نتذكر جميعا الشريط السينمائي “الزوجة الثانية” وتحديدا شخصية شيخ القرية مبروك العطار – جسده الفنان حسن البارودي ببراعة جعلتنا نلعنه – فالقصة ركزت على استبداد عتمان عمدة القرية الثري (صلاح منصور) على الفلاحين البسطاء الذي قرر الزواج من فاطمة خادمته (سعاد حسني) بالرغم من إنها متزوجة، بهدف إنجاب الولد الذي سيورثه العمودية والثروة الضخمة التي استولى عليها ظلما وجورا من الفلاحين لأن زوجته حفيظة (سناء جميل) فشلت في إنجابه..فيقوم العمدة الظالم المفتري بتطليق فاطمة من زوجها أبو العلا المسكين المغلوب على أمره (شكري سرحان) بمساعدة شيخ القرية مبروك العطار الذي حلل للعمدة كل ما هو حرام “أطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم”، وشاهدنا جميعا أن هذا الشيخ الذي حلل حراما وجرما ما كان يجب أن يقوم وأن دوره كشيخ هو إسداء النصح للعمدة وإثنائه عن هذا الفعل الحرام.

وفي قصة “شباب امرأة” للمبدع أمين يوسف غراب، اشتهر الشيخ نوفل شيخ القرية وإمام المسجد ومأذونها ومحفظ القرآن لأطفالها ومسحراتي رمضان في نفس الوقت، بالنفاق والاستئثار بأطايب الطعام الذي يأخذه من أثرياء القرية ثم يرمي الفتات وعظم الدجاج لفقراء القرية..ناهيك عن خوفه من عمدة القرية وأغنيائها ويتحدث أمامهم بلغة مغايرة تماما عما يقوله عنهم من ورائهم، فالنفاق من شيمه، وهذه صفة غير حميدة ربما نقبلها من شخص عادي ولكن ليس من شيخ يعلم أن المنافق في النار وبئس المصير.

رجل الدين ليس شرطا أن يكون شيخا معمما أو رجلا تقيا ورعا، فالعصر الحديث أوجدهم في صورة الدعاة الجدد ومنهم الأدعياء، يرتدون أحدث الثياب وأغلاها، وداخل هذه الثياب نرى أشخاصا ليست سوية وقلوبا عفنة وأجسادا مسممة بأحقاد دفينة للغير، وجل عملهم هو “يقولون ما لا يفعلون”، ومنهم من يوقع بالبنات في غيه الشيطاني من أجل تلبية شهواته، وهم الذين يجيدون الحديث علنا عن ضرورة اتقاء مفاتن المرأة، بينما هم يعشقون المرأة بكرا وثيبا، صبية وعجوزا وحتى شمطاء، ولا يتوانون عن الجمع بين الاثنين معا وفي فراش واحد. ومن الدعاة الجدد سواء مشاهير أو غيرهم من الأدعياء من يغرر بالمرأة ويقنعها بزواج غير رسمي، مع أنه – هو نفس الداعية أو المدعي- يرفض في مواعظه العلنية مبدأ الزواج العرفي، ومعظمنا يعلم الداعية الذي دأب على الزواج من الفنانات، فهي تثق فيه كداعية ومعلم وواعظ، ثم يتقدم الوضع الى مرحلة تتجاوز التعلم والتفقه في أمور الدين الى تصريح بالحب، لتنتهي الحكاية كما نعلم بالزواج ثم طلاق، لتتكرر القصة مع أكثر من فنانة. أما الدين فله رب يحميه.

رجل الدين الفاسد مثل رجل الشرطة الذي يبحث عن الجريمة، فلولاها ما وُجدت وظيفته أصلا، فالجريمة عبارة عن طرفين، مجرم ومحقق يبحث عن الجاني، أو محقق يجتهد في منع الجريمة نفسها. ومن الشيوخ من يتحدث كثيرا عن ضرورة إصلاح العيوب في المجتمع وعلاته، وقال الله وقال الرسول، هذا كلامه علي المنبر أو أمام المصلين وممن يتلقون الموعظة، ولكن – الشيخ نفسه – ينسي حديثه ويتناسى كلامه ومواعظه عندما ينفرد بنفسه ويفكر في تلبية شهواته وأهوائه المتضخمة. ومن الشيوخ أو الدعاة الجدد أو الأدعياء القدامي لا ينطقون إلا قرآنا وحديثا نبويا ولا يتخلون عن ترديد قصص التراث مستخدمين اللغة العربية إمعانا في جذب المريدين، ولكن ما أن ينفرد بأنثى إلا وتراه وقد انقلب حاله، لتلتهب رغباته وتتحرك بعض أعضائه ويتخلى عن حالة الورع الظاهري الذي يبدو عليه عند مقابلة الرجال، وينحنى أمام كلمة ناعمة أو إيحاءة هامسة ربما كانت طبيعية من امرأة عابرة، وتراه وقد بدت عليه علامات التراجع عن شكله الجاد لينقلب إنسانا حنونا وخلوقا وعطوفا حتى يتقرب إلى أنثاه، وينقض عليها وحشا مفترسا، وما أن ينال منها وطرا يبحث عن غيرها، وتختلف الذرائع كل مرة لدى إقدامه على فعلته، ولكن الثابث في كل الأحوال هو التمسك ظاهريا بالدين، وكله بما يرضي الله.

ومن علامات فساد بعض رجال الدين أو ممن يدعون التدين، ما سبق وعهدناه أيام حكم الإخوان البغيض، فرأينا أيام هذا النظام كل موبقات الحزب الوطني، فالحزب العلماني استأثر بكل الوظائف والمناصب العليا في البلاد، وقام بتعيين أنصاره في أي مكان شاغر، فأصبحت البلاد عزبة للحزب، وكان حري بالإخوان عدم الوقوع في نفس الفخ، ولكنهم نقلوا تصرفات وسلوكيات “الوطني” بالمسطرة، وفوجئنا برجالهم في المناصب العليا، وتم تقسيم الكعكة على أتباعهم، ليهدروا تاريخا من قولهم أنه يعملون بما يرضى الله، وهم في الواقع أرضوا أهوائهم وأنفسهم، ومنهم الواعظ – كان واعظا ولا يزال – الذي استهوته عملية الزواج غير الرسمي، لينكب بشهوته على شبق الشريك وينهل من العسل سواء أبيض أو أسود، ولا عزاء للدين الذي يقتصر دوره لديهم على الانتفاع منه والمتاجرة به، ولو ذهب مواطن لهذا المدعي أو الداعية وطلب منه مشورة بأن يتزوج زواجا عرفيا لكان رد الداعية أو المدعي “كيف يجرؤ إنسان على فعل هذا؟!”..ثم ينهره بشدة ويتناسى أنه صاحب الفعل الأصلي، ولسان حالهم يقول “حق لنا وحرام عليكم”، في حين يقول المواطن “أحرام علي بلابله الدوح”..

الدعاة الجدد وما شابههم من أدعياء وواعظين، لا يتورعون عن الحديث عن الأخلاق الحميدة وتهذيب النفس وترويضها، ويتمادون في الكلام عن المعاني والأهداف المثالية، بينما في واقع الحال يؤدون أعمالا قذرة ويتشاركون في مؤامرات ضد الدين نفسه، وربما يكونوا فرحين بما يؤدونه من أفعال وتدابير، فهم يتحمسون لإصلاح الفساد الأخلاقي وفي نفس الوقت يعيشون فيه، ولولا الفساد والحرام لما أصبح لهم عمل، فتحذيرنا من الخطايا والذنوب هو مبرر وجودهم ولولا هذا لما كانت لهم رسالة مقدسة يؤدونها أو هدف يتشدقون به ويدعون أنه يؤرقهم في حياتهم، ليلهم ونهارهم، ففساد المواطن العادي يطمئن هؤلاء على أن عملهم مستمر لكي ينهوننا عنه ويمنحهم الثقة بوجودهم وأهميتهم ويبرر لهم سلطتهم علينا..ولكن فسادهم ومخالفتهم أوامر الدين وتعاليمه وأخلاقه فهذا لا يؤرقهم، لأنه في الخفاء وليس العلن، فهم لا يخشون المولى عز وجل ولكن يؤرقهم فقط لو أننا كشفنا تلاعبهم بالدين وآياته، فهم أوصياء علينا في حين أنهم يتلاعبون بالدين.

الشيخ الرفاعي (ود الملك) هو نفسه الشيخ نوفل (شباب امرأة) ويشاركهم أفعالهم وخصالهم الشيخ العطارمبروك (الزوجة الثانية)..ومعهم أيضا شيوخ جدد ولكن بثوب الشيوخ وهؤلاء ينطبق عليهم مسلسل (الجميلة والوغد). الشاعر بيرم التونسي قالها زمان “يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله”..ونحن هنا تقتبس كلمات بيرم ونقلبها ” يا أهل الموعظة ارحمونا لوجه لله”.
ربما للحديث بقية.

زر الذهاب إلى الأعلى