د.طارق سعدة ونظرية الإعلام الذكي: قراءة في كتاب يؤسس لمرحلة جديدة
تقرير يكتبه : أشرف مفيد

حين أمسكت بين يديّ كتاب «الأسس العلمية لإدارة المؤسسات الإعلامية والصحفية» للدكتور طارق سعدة، نقيب الإعلاميين ، أدركت منذ الصفحات الأولى أنني أمام عملٍ يتجاوز الإطار الأكاديمي ليُلامس جوهر التحول الذي يشهده الإعلام في زمن الذكاء الاصطناعي. لم يكن الكتاب مجرد بحث في قواعد الإدارة أو نظم المعلومات، بل هو محاولة صادقة لتأسيس فكرٍ جديد في كيفية إدارة المؤسسات الإعلامية بعقل علمي، وروح إنسانية، وبعيونٍ مفتوحة على المستقبل.
لقد توقفت طويلًا أمام هذا العمل، ليس بصفتي قارئًا، بل بوصفي خبيرًا في مجال الذكاء الاصطناعي أرى كيف تتبدل ملامح العالم من حولنا كل يوم. وجدت في هذا الكتاب إجابة على سؤال ظلّ يراودني منذ سنوات: كيف يمكن للإعلام أن يظل إنسانيًا في عالمٍ تحكمه الخوارزميات؟ وكيف نحافظ على المعنى في زمنٍ باتت فيه المعلومة تُنتَج آليًا وتُوزَّع إلكترونيًا وتُستهلك بسرعة الضوء؟
الكتاب يضعنا أمام رؤية متكاملة تتقاطع فيها الإدارة بالتكنولوجيا، والمهارة بالوعي، والعلم بالمسؤولية. فالدكتور طارق سعدة لا يكتفي بتوصيف التغيرات التي طرأت على المشهد الإعلامي، بل يحللها بعمق، ويقترح مسارات عملية لتطوير الأداء المؤسسي بما يتلاءم مع التحولات الرقمية التي يعيشها العالم. واللافت أنه يربط هذا كله بمفهوم الإدارة العلمية، فيرى أن الإعلام الحديث لم يعد نشاطًا مهنيًا فحسب، بل منظومة فكرية تحتاج إلى تخطيط وتحليل وقياس، تمامًا كما تُدار المؤسسات الصناعية أو الاقتصادية الكبرى.
لكن الفصل الذي لامسني بعمق، ووجدت فيه صدى لتجربتي في الذكاء الاصطناعي، كان الفصل السادس – “الإعلام والذكاء الاصطناعي”. في هذا الجزء شعرت أن المؤلف يخاطب المستقبل بوعيٍ وطمأنينة. فهو يدرك أن الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفًا معرفيًا أو فكرة خيالية، بل أصبح واقعًا يصوغ شكل المهنة الإعلامية ويعيد توزيع أدوارها بين الإنسان والآلة. تحدث عن مستويات الذكاء الاصطناعي ووظائفه في وسائل الإعلام، عن الروبوت الصحفي، والتحليل التنبئي، وعن خوارزميات التخصيص التي تخلق علاقة جديدة بين المحتوى والجمهور.
غير أن ما يميّز هذا الطرح هو النظرة المتوازنة التي تجمع بين الإعجاب بالتقنية والوعي بمخاطرها. فالدكتور طارق سعدة لا ينحاز للتكنولوجيا بوصفها خلاصًا مطلقًا، بل يتعامل معها كقوة يجب أن تُدار بعقل إنساني رشيد. فيرى أن الذكاء الاصطناعي قادر على تعزيز جودة الإعلام ودقته وسرعته، لكنه في الوقت نفسه قد يهدد المصداقية، ويُضعف الحس الإنساني إن لم يُستخدم وفق ضوابط أخلاقية ومهنية واضحة. هنا تحديدًا شعرت أن الكاتب يلتقي معي فكريًا؛ فالتكنولوجيا في جوهرها ليست عدوًا، لكنها تصبح كذلك إذا فقد الإنسان سيطرته عليها.
وأنا أقرأ تلك الصفحات التي تتحدث عن توظيف الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسات الإعلامية، تخيلت مشهد المستقبل الذي يرسمه المؤلف: غرف أخبار تُدار بالبيانات، أنظمة تحليل تفهم سلوك الجمهور لحظة بلحظة، وصحفيون يمتلكون أدوات ذكية تُعينهم على الإبداع بدلًا من أن تحل محلهم. إنه مستقبل لا يلغي الإنسان، بل يمنحه أدواتٍ أقوى ليُعبّر ويؤثّر ويبتكر.
الكتاب أيضًا لا يغفل البعد الوطني في طرحه. فكل فكرة فيه تحمل وعيًا بأن مصر اليوم تسير في طريقٍ واضح نحو تطوير إعلامها الوطني ليواكب العالم ويستوعب ثورة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. ومن هذا المنطلق، يبدو الكتاب وكأنه جزء من مشروع فكري أشمل يتقاطع مع رؤية الدولة المصرية في بناء منظومة إعلامية حديثة، قادرة على المنافسة إقليميًا ودوليًا، ومؤهلة لأن تكون نموذجًا لإعلام ذكي يستند إلى المعرفة لا الانفعال، وإلى التحليل لا التلقين.
وبوصفي متخصصًا في الذكاء الاصطناعي، أستطيع القول إن هذا الكتاب يُعد من أوائل المؤلفات المصرية التي تناولت العلاقة بين الإعلام والتقنيات الذكية من منظور إداري متكامل. فهو لا يتعامل مع الذكاء الاصطناعي كمفهوم تقني فحسب، بل كقيمة إدارية وتنظيمية قادرة على إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية بالكامل. ومن هنا تأتي أهميته في هذا التوقيت بالذات، حيث يضع أمام صُنّاع القرار، والأكاديميين، والعاملين في المجال، خريطة طريق واقعية لما يجب أن يكون عليه الإعلام في عصر التحول الرقمي.
خرجت من قراءة هذا العمل بإحساسٍ عميق بالاحترام تجاه فكر مؤلفه. فالدكتور طارق سعدة لا يكتب من برجٍ أكاديمي منعزل، بل من قلب التجربة المهنية والواقع العملي، ولذلك جاءت لغته بسيطة، وإن كانت تحمل عمقًا فكريًا. الكتاب في مجمله يبدو كحوارٍ مفتوح بين الإنسان والتكنولوجيا، بين الإداري والمبدع، بين الصحفي وصانع القرار.

في النهاية، أستطيع أن أقول إن هذا الكتاب ليس مجرد دراسة في إدارة الإعلام، بل دعوة للتفكير في مستقبل المهنة بعينٍ واعية وقلبٍ مسؤول. هو جسر بين الماضي والمستقبل، بين الورق والشاشة، بين الصحافة التقليدية والإعلام الذكي. وكلما تقدمت في صفحاته، شعرت أنني أمام عقلٍ يؤمن أن التطور الحقيقي لا يتحقق إلا حين تتحد المعرفة بالإنسانية، والعلم بالقيم.









