حازم البهواشي يكتب: مِن وصايا الأستاذ

قلتُ سابقًا إن لفظ الأستاذ في مجال الصحافة يشير إلى الأستاذ “محمد حسنين هيكل” (1923م _ 2016م)، وعندي في قريتي (سنباط _ غربية) يشير إلى أستاذي (حمدي زيان) _ رحمه الله _.
وحين طالعتُ في الأيام الماضية ما تناولته وسائلُ الإعلام من أحداثٍ بين وزير التربية والتعليم ومدير إدارة الباجور التعليمية بمحافظة المنوفية _ رحمه الله _، إذ قيل إن وفاة الأخير جاءت بعد إهانة الوزير له!! وكذلك ما ورد وتداولته بعض المواقع الإخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي من مشادة كلامية حادة وقعت بين نائب محافظ سوهاج والسكرتير العام للمحافظة (الذي أصبح سابقًا بعد الحدث) أثناء افتتاح أحد المساجد بمدينة (الكوامل) يوم الجمعة (11 أبريل 2025م)، تطورتْ لاحقًا إلى مشاجرة داخل مبنى المحافظة أمام مكتب المحافظ!!
أقول: حين طالعتُ هذه الأمور _ ولستُ بصدد التحقيق بالطبع مَن المخطئ فيها؟ _ تذكرتُ على الفور تعاليمَ ووصايا الأستاذ (حمدي زيان) ومنها: (المناصب تحتاج بجانب الكفاءة إلى نظافة اليد ونظافة اللسان). ولعل نظافة اليد يمكن للجهات الرقابية أن ترصدها لكل من يترشح لمنصب، لكن نظافة اللسان تحتاج إلى سؤال وتحريات مباشرة في الأماكن التي عمل فيها المرشح، وكيف كان يتعامل خصوصًا مع مَن هم أدنى منه في الدرجة الوظيفية؟!
تنضم إلى الواقعتين السابقتين واقعةٌ أخرى سمعتُ عنها من مصدر موثوق، تخص أيضًا أحد الوزراء الذي قام بالحديث بأسلوب غير لائق مع مديرة مرموقة في إحدى الجهات التابعة لوزارته ولكن خارج مصر!!
وأعود بالذاكرة بعد هذه الأحداث إلى القصة الشهيرة عن مؤسس شركة فورد لصناعة السيارات “هنري فورد” (1863م _ 1947م)، حيث كان ينوي تعيين رئيس تنفيذي في شركته، وبعد فرز الأسماء ومن بين آلاف المتقدمين اختار أفضلَ اثنين للمقابلة الشخصية، وفي موعد المقابلة، وقبل توجيه أي سؤال أخذهما لتناول الغداء معه في أحد المطاعم، وبعد تناول وجبة الغداء، وقبل عودتهما لمقر الشركة قال “فورد” لأحدهما: (مبروك لقد تم اختيارك) بينما اعتذر للآخر، الذي غضب، وقال لـ “فورد”: (منذ جلسنا ونحن نتكلم في أمور عامة، ولم تتكلم معنا عن الهندسة والسيارات، أو عن أي أمر يخص العمل؟! ولم تسألنا عن أسلوبنا وطريقتنا وأُسس ونظريات القيادة؟! فكيف حكمتَ أن صديقي أفضلُ مني؟! فقال السيد “فورد”: (اخترتُ صديقك ورفضتُك لسببين وفِعلين رأيتُهما خلال وجبة الغداء هذه… الأول: عندما أحضر النادل شريحةَ اللحم ووضعَها على الطاولة، قام صديقُك بتذوقها ثم أضافَ إليها المِلح، وأنتَ أضفتَ المِلحَ قبل أن تتذوقها، وأنا يعجبني الشخص الذي يُجرِّب الأشياءَ قبل تغييرها، واتخاذِ قرارٍ حاسمٍ فيها. الثاني: صديقُك كان مؤدبًا مع النُّدُل (جمع نادِل وهو من يقوم بخدمة الزبائن) يبتسم لهم ويشكرهم ويساعدهم في عملهم، ويتعامل معهم ومعي ومع الكُل بنفس الأخلاق أما أنت فكُنتَ تتعامل معهم بفوقيةٍ وتعالٍ، حتى الابتسامة لا تُظهرها لهم، ولم تكن مؤدبًا إلا معي أنا لأنني صاحب الشركة ولك مصلحة عندي!! وأنا أرى أن القائدَ المبدع عليه أن يتعاملَ مع الجميع بسواسية ولا يتعالى على أحد فكُلنا بشرٌ متساوون، وأيضًا أرى أن الموظفين هم من يُنفذون العمل مع قائدهم وليس القائد وحده، فهم يحتاجون شخصًا يقودهم بحُسن أخلاقه وتعامله لينجح العمل وينجحوا هم كذلك. لذا اخترتُ صديقك لهذا المنصب ورفضتُك).
والسؤال الآن وأطرحه أيضًا بصورة عامة لا حُكمَ فيها على أشخاصٍ بعينهم: هل يعتقد كل صاحب منصب أن مرؤوسيه عبيدٌ لديه؟! أو أنهم يعملون في عزبتهِ الخصوصية؟! والله لو كان الأمر كذلك وكان يعرف دينه لاستحى من التطاول عليهم أو ظلمهم، لكننا يبدو أننا أمام نوع من المسؤولين (ناقصين رِباية)!! وأكرر: الحديث عام لا يخص أحداثًا بعينها، لم نحقق فيها ولا ندري من المخطئ؟
ومن موروثاتنا التي نعرفها: (إذا رُفِعَت الأيدي، تساوت الرُّتَب، أو تساوت الرؤوس)!! بما يعني أن تخطي حدود الأدب في معاملة الآخرين يُلغي الحدود بين الطرفين ويقضي عليها، فيمكن للأقل رتبة أن يتجاوز في حق الأعلى رتبة!! وهذا غير مقبول بالطبع فيمن يُسنَد إليهم أي مسؤولية؛ فليس أسوأ من مسؤول يتصف بالغطرسة وسوء الأدب، وهذا النوع لا بد من معاقبته عن طريق تبادل الأدوار، فيصبح هو مرؤوسًا فترةً من الزمن، ورئيسه ممن كانوا تحت إمرته!!
في مجال الإعلام نرى الفرق شاسعًا عند التعامل مع مسؤول أجنبي ومسؤول عربي (والتعميم مرفوض بالطبع)؛ فالأول يعي أنه مسؤول أي على وزن (مفعول) وليس (فاعل)!! يتعامل معنا من هذا المنطلق الذي يعي أنه مُكلَّف، فيتحدث دون عنجهية أو فوقية، ويحدد الموعد ويلتزم به أو يعتذر إن كان ثمة ما يوجب الاعتذار!! أما الثاني فعلى العكس من الأول!!
إن المسؤولَ غيرَ نظيف اللسان لا يرتقي إلى حجم الثقة والمكانة التي وضعته الدولة فيها، وإلى هذا النوع من المسؤولين، أذكركم بقول نبي الإنسانية: (لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبْر) وقد عرَّف _ عليه السلامُ _ (الكِبْرَ) بأنه (بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ)!! أي: رفضُ الحقِّ والبُعدُ عنه تَرفُّعًا وتَجبُّرًا، واحتِقارُ الناس وازدِراؤُهم، فيَكُون ظالمًا لهُم، مُعتديًا عليهم؛ فهو يستعظم ذاته، ويرى قَدْرَها فوق قَدرِ الآخَرين، ولا يَنبغي هذا إلا لله تعالى؛ فهو المُستَحِقُّ له، وكُلُّ مَن سِواهُ عَبيدٌ له سُبحانَه.