حازم البهواشي يكتب: سِـرُّ مِصر
أي سِرٍّ فيكِ يا مصرُ، يجعل ذكرَكِ خالدًا محفوظًا إلى يوم الدين؟! لقد ذكَرَكِ ربُّ العالمين في الكتاب الذي تعهد بحفظه _ القرآنِ الكريم _ خمسَ مرات بالاسم دون غيرِك من البلدان، وبالتلميح _ على خلاف _ من 28 مرة إلى ثلاثين أو ثمانين مرة!!
يقول ابنُ الكندي “عمر بن محمد بن يوسف” من علماء النصف الثاني من القرن الرابع الهجري في كتابه (فضائل مصر المحروسة): ” فَضَّلَ اللهُ مصرَ على سائر البلدان، كما فضَّلَ بعضَ الناس على بعض، والأيامَ والليالي بعضَها على بعض، والفضلُ على ضَرْبَيْن: في دين أو دنيا، أو فيهما جميعًا، وقد فضَّلَ اللهُ مصرَ وشهِدَ لها في كتابه بالكرم وعِظَمِ المنزلة وذكرَها باسمِها وخَصَّها دون غيرها، وكررَ ذِكرَها، وأبانَ فضلَها في آياتٍ من القرآنِ العظيم، تُنبئ عن مصرَ وأحوالِها، وأحوالِ الأنبياء بها، والأممِ الخالية، والملوكِ الماضية، والآياتِ البينات، يَشهد لها بذلك القرآن وكفى به شهيدًا …. “.
يقول تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام: “… وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ … ” ( يوسف _ 100 )، فجعل الشامَ (أعزَّها الله وفرَّجَ كربَها) بَدْوًا !! وحين وصف _ جلَّ وعلا _ مصرَ، وما كان فيه آلُ فرعون من النعمة والمُلك قال: “كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)” (الدُّخَان)، فهل يُعْلَمُ أنَّ بلدًا من البلدان في جميع أقطار الأرض أثنى عليه الكتابُ بمِثل هذا الثناء، أو وصفَه بمِثل هذا الوصف، أو شهِدَ له بالكرم غيرَ مصر؟ (فضائل مصر المحروسة).
هل تعلمون بلدًا أوصى بأهلِه نبيُنا محمد _ صلى الله عليه وسلم _ غيرَ مصر؟! فإن لهم ذمةً ورحِمًا، أما الرحِمُ فـ (هاجر) أم إسماعيل عليه السلام _ وهو أبو العرب _، فنحن أخوال العرب، وأما الذمة فالسيدة (مارية القبطية) أم إبراهيم ابن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وهي من قريةٍ في صعيد مصر.
وقد صاهرَ المصريين من الأنبياء سيدُنا إبراهيم وسيدُنا يوسف وسيدُنا محمد _ عليهم السلام _.
وممن ذكرهم الله _ تعالى _ من أهلِ مصرَ في كتابه، رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعون يكتم إيمانه، ومنهم فيما يُقال: الخضر عليه السلام، وأيضًا السحرة الذين تجمَّعوا لموسى ولم يُصِروا على الكفر، وآمنوا وسجدوا لله، وكان عددُهم اثني عشر ساحرًا، تحت يدَي كل ساحر منهم عشرون عريفًا، تحت يدَي كل عريف منهم ألفٌ من السحرة!! فيكون العددُ الإجمالي (٢٤٠ ألفًا و ٢٥٢) شخصًا، وقيل المرادُ بالعدد الكثرة. على أيةِ حال، فإنه لا يُعلم جماعةٌ كهذه الجماعة أَسلمَتْ في ساعةٍ واحدة ولم يُفتَتن رجلٌ واحدٌ منهم كما افتُتِن بنو إسرائيل بعبادة العِجْل!!
ويروي المقريزي في الخطط وغيرُه أن نوحًا _ عليه السلام _ دعا ربَّه لولدِه وولدِ ولدِه: مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وبه سُميت مصر، وهو أبو القبط، فقال: (اللهم باركْ فيه وفي ذريتِه، وأسكِنْه الأرضَ المباركة التي هي أمُّ البلاد وغوثُ العباد، ونهرُها أفضلُ أنهارِ الدنيا، واجعلْ فيها أفضلَ البركات، وسخِّرْ له ولولدِه الأرض، وذلِّلْهَا لهم، وقوِّهمْ عليها).
وتظل مصرُ غوثَ العباد، وليس خبرُ الحملات الصليبية والتتار ببعيدٍ عن أسماعنا، ولم تَسَعْ أرضٌ من الأشقاء من جميع البلدان ما وسِعته مصر، وهم يُقيمون بين أهلها مُعززين مُكرمين ويعيشون بيننا في منازلنا، لا في خيام تؤويهم، ولا في معسكراتٍ للاجئين!! وحسب موقع مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فإن مصرَ بها (62) جنسية مختلفة!! وتقول منظماتٌ دولية إن عددَ اللاجئين في مصر والمهاجرين إليها بطرق مشروعةٍ أو غير مشروعة تعدى تسعة ملايين شخص!! معظمهم من السودانيين الذين وصل عددهم قبل الأزمة إلى خمسة ملايين شخص، ازدادوا بشكل كبير بعد بداية الحرب في البلد العربي، يأتي بعدهم السوريون الذين وصل عددهم إلى مليوني شخص!! نعم يَضيق الناسُ بالعيش لكنَّ في قلوبهم مُتسعًا، وهم يحمدون الله: (رضا، مستورة، دا احنا في نِعَم).
ويذكرُ المصريون مَن عاشَ بأرضِ مصرَ مِن الأنبياءِ والصالحين حياتَه أو فترةً منها، يَذكُرون إبراهيمَ الخليل عليه السلام، وإسماعيلَ، ويعقوبَ ويوسفَ، وموسى وهارونَ ويُوشعَ بن نون والسيدَ المسيح وأمَّه حبيبةَ المِصريين السيدة مريم. ومِن صحابةِ رسولِ الله دخلَها في الفتح الإسلامي أكثرُ من مائة صحابي، وقد وقفَ على إقامةِ قِبلة المسجد الجامع (جامع عمرو بن العاص) ثمانون من أصحابِ رسول الله منهم (الزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو ذر وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعمار بن ياسر وأبو هريرة). وقد وُلِدَ بها (عمرُ بن عبد العزيز) الذي أُطلِق عليه خامسُ الخلفاء الراشدين.
ربَّنا يا مَن أغثتَ بنا الأرضَ أيامَ يوسف عليه السلام، ولم تجعل الخزائنَ بأرضٍ غيرِ أرضنا، وحَمَيتنا من الأوبئة فما أصابتْ مِنا كما أصابتْ مِن غيرِنا، ومِن تصاعُدِ الأحداث التي أصابت بعضَ البلاد وشرَّدَتْ فيها العباد، وعافيتَنا من الفتن، وجعلتَ الرحمةَ في قلوبنا على بعضِنا فنعيش جميعًا رغم المصاعبِ والمتاعب، اللهم بحق السر الأعظم الذي لا يعرفه إلا أنت سِرِّ تجلِّيكَ على أرضِ مصرَ دون غيرها، احفظْ بلادَنا وهيئْ لها من أمرِها رَشَدًا، وجُدْ عليها مِن واسعِ فضلِك، واجعلْنا نستردُّ ما فقدناه مِن ملامِحِنا وهُويتِنا، وحسِّنْ أخلاقَنا واهْدِ شبابَنا، واكسِرِ الأعداءَ أمامَنا، ومَن أرادنا بسُوءٍ فاجعلْ تدبيرَه تدميرَه، واشغَلْه بنفسِه، واجعَلْنا يدًا واحدةً على مَن عادانا، يَفطِنُ كُلُّ امرئٍ منا إلى مكانِه ويعي أنه يَضُمُّ تُراثَ أمةٍ عريقةٍ مجيدةٍ لها رسالة، اللهم قَـوِّ عَـزمَـنـا وإرادتَـنـا وقُـوَّتَـنـا.