مختار محمود يكتب:صرخات “المري”..هل من مجيب؟
من جديد..يعود رئيس محكمة جنايات المنصورة المستشار “بهاء المري” هذا الأسبوع إلى الواجهة، من خلال منطوق الحُكم على أب مُدان بهتك عرض ابنته!
“المري” وجَّه كلامه للأب المدان قبل أن يُصدر حُكمه عليه: “أنت هتكتَ عرض ابنتك غير مُبالٍ بصلة دم ولا بأبوتك..فأنت جئتَ بما لم يُؤتَ به في عصر الجالية، حيث وأدوا البنات ولم يتحرش بهن أحد، أمَّا أنت فتحرشتَ وهتكتَ عرض ابنتك”!
يُعرَف “المري” بفصاحته وبلاغته وجزالة عباراته وألفاظه. هذا سمتُ رجال القضاء النابهين، يقبضون على ناصية اللغة، كما يحُكمون قبضتهم على مواد القانون، فلا يحكمون إلا بما أراهم الله.
يُعرف “المري” بأنه “أديب القضاة”، وهو جدير بهذا الوصف، فلا يخلو منطوق حُكم له من من خُطبة بليغة كاشفة لواقع بائس، يصنع جرائم لم تكن تخطر على بال إبليس عندما أعلن العصيان مع بداية خلق البشرية.
في قضية سابقة.. وجَّه “المري” كلمة شديدة اللهجة للمتهمة بتعذيب نجلها وإجباره على التسول بالمنصورة قبل الحكم عليها بالسجن 13 عامًا.
قال “المري” للسيدة المُدانة:: «يا إسراء.. الأمُومَةُ عَطَاء.. حُبٌ ورَحمةٌ وإيثارٌ وفِداء. أمَّا لديكِ فكانت تجارة، ثمَّ قَسَى قلبُكِ مِن بَعدِ ذلكَ، فهو كالحِجارة»، مردفًا: «كم مِن مُجرمٍينَ تَاجرُوا بالبَشَر. أمَّا أن تُتاجرَ أمٌّ بطفلها فذلكَ شَيءٌ نُكُر. لم تَعرفي مِن الأمومَةِ إلا اللقب. أحبَبتِ المالَ حُبًا جَمًا. وفي سبيلِهِ هانَ الوَلَد.أكرهتِ فِلذةَ كبِدكْ على التَسوُلِ.. وبماءٍ كالمُهلِ حرَّقتهِ كلما رفَض».
وتابع متسائلاً: «كيفَ كُنتِ، والماءُ الحَميمُ يشوي فَروةِ رأسه، ويعوق حركة كتفه؟! ما حالُ قلبِكِ وقطعةٌ من روحِكِ تَرتعِد؟ ما حالُ ليلِكِ، وهو يئنُّ وينتحِب؟! هل غمَضَت عيناكِ، وهل كنتِ تنامين؟!
استطرد المستشار البليغ «الأمُّ خُلقَتْ لتَحنُو، لا لتُفسِدَ من الأبناءِ الجَسد. لم تأتِ دابةٌ ما جِئتِهِ، بل تَرفعُ حافرَها عن صَغيرِها، خَشيةَ أنْ تُؤذِيَه. لم تَعرفْ الرحمةُ سبيلًا إلى قلبِكِ، واستَعصَى على المَحكمةِ عند التطبيقِ، أن تَشمَلِكْ.. فَمَن لا يَرحَم لا يُرحَم».
وقبل عامين..وقبيل الحكم على شاب استعان بصديقه لهتك عرض شقيقته؛ ليجبرها على التنازل عن ميراثها الشرعي..أطلق “المري” صرخة مدوية طافت الآفاق.
“المُرِّىُّ” شدد في كلمته البليغة -يومئذ- على أن البُعد عن أخلاق الإسلام هو الذي قادنا إلى مثل هذه الجريمة الآثمة التي تخجل منها الشياطين!
أهابَ “المُرِّيُّ” بـ”علماء الأمة دينًا واجتماعًا وإعلامًا وثقافة وفنًا: أن خذوا بأيدي الناس الي أحكام الدين الحنيف وقيم ومبادئ هذا المجتمع الأصيلة القويمة، ولن يتأتي ذلك إلا بتكاتفٍ يكونُ فيه صالحُ هذا الوطن نُصبَ الأعين وفي مُهجة القلوب”.
في كل مرة يقطع “المُرِّيُّ” قول كل خطيب، بعدما فقدت خطب المنابر جدواها، ويعجز فيوجز، بعدما تنازل أهل الإعجاز والإنجاز عن دورهم، وينصف فيُحسن، بعدما هرب أهل الإنصاف، وتماكر من ينبغي أن يكونوا أهل الإحسان؛ خوفًا وطمعًا.
لو لم يكن “المُرِّيُّ” يتمتع بحصانة قضائية مُحكمة لتطاول عليه الصغار والمغرضون والمرجفون في المدينة، ممن يصدمهم الحديث عن الإسلام ومكارم الأخلاق.
نكأ “المُرِّيُّ” الجراحَ مع كل حُكم قضائي حَكم به في قضية غريبة وصادمة، عندما يوجَّه كلامه إلى مَن يصفهم بـ”علماء الأمة دينًا واجتماعًا وثقافة وفنًا” بأن “يأخذوا بأيدي الناس الي أحكام الدين الحنيف وقيم ومبادئ هذا المجتمع الأصيلة القويمة”.
يتضاعف الألم عندما لم يكتفِ “المري” بالتشخيص، بل يحدد العلاج الناجع -من وجهة نظره- فيقول حازمًا:” ولن يتأتي ذلك إلا بتكاتفٍ يكونُ فيه صالحُ هذا الوطن نُصبَ الأعين وفي مُهجة القلوب”.
معالي المستشار الجليل.. لقد قلت لك قبل عامين: اختلف الزمان غير الزمان، وغدت الأيام غير الأيام، ولم يعد العلماء كالعلماء، ولم يعد الدين دينًا ولا الإعلام إعلامًا ولا الثقافة ثقافة..ومن ثمَّ فلا حياة ولا حياء لمن تنادي.
معالي المستشار..إن هذه القضايا- التي حكمتَ فيها بما أراك وأنطقك الله- لم تعد استثنائية أو فردية، على خطورتها ومرارتها، بل إنها تندرج تحت سلسلة آثمة من الجرائم التي تتعجب منها شياطين الجن مثل: زنا المحارم وتبادل الزوجات وقتل الأباء ونحر الأبناء. لقد صار شياطين الإنس أكثر إجرامًا ودناءة من شياطين الجن، وسوف تعقب هذه الجرائم الصادمة جرائمُ أخرى تجعلُ الحليمَ حيرانَ، وسوف تحتار فيها معالي المستشار.
لقد ظهر الفساد في البر والبحر، وانتشرت الرذائل وتوغلت بين المصريين بوتيرة متسارعة؛ منذ أن تم تغييب الدين والعمل على نفيه من حياتهم قدر المستطاع والتباهي بذلك؛ باعتباره تحضرًا وتحررًا.. معالي المستشار.
يواجه الدين- بمفهومه الأخلاقي والقيمي- حربًا ضروسًا من تياراتٍ شتَّى يتوهَّمُ أصحابها أنهم يُحسنون صُنعًا.
هل نما إلى علمكم -معالي المستشار الجليل- المطالب الضاغطة لإلغاء حصة التربية الدينية في المدارس، وهل أتاكم نبأ تضييق الخناق على الجرعة الدينية في وسائل الإعلام والفن وتعطيل أي عمل فني لتقديم سِير الصحابة الأكارم وغيرهم من الصالحين، في الوقت الذي يتم فيه التمكين للهجوم على الدين وتجريح ثوابته والاحتفاء بأعمال تطعن في عمق الثوابت الأخلاقية التي تربى عليها المصريون؟ هل تتخيل- معالي المستشار- أن اصطفاف التلاميذ لأداء صلاة الظهر في فناء مدرستهم كان مثيرًا للغضب في وسائل الإعلام؟
إنَّ صرخة المستشار “المُرِّيِّ” تستحق –في كل مرة- ما هو أبعد من مجرد الاحتفاء بها، ولكنها ناقوس خطر يُحذر مما هو هو أسوأ؛ لذا يجب أن تتلقفها الجهات المهمومة بمصلحة مصر وشعبها وتبني عليها وتنطلق في وعي رشيد وسعي سديد؛ من أجل استعادة دور الدين وتعظيمه وعدم الخضوع والاستسلام لإرهاب خفافيش التغريب وابتزاز غربان التحضر الخادع الذين إذا ظهروا في مجتمع أفسدوه وضللوه ونشروا فيه الخراب. وإذا كان الملح يقي اللحم من الفساد، فمن يُصلح الملحَ إذا فسد الملحُ؟!
إنَّ النهاية المحتومة لهجر دين الله تعالي اختصرتها هذه الآية الكريمة: “ومَن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشة ضنكَا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال: ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى. وكذلك نجزي مَن أسرفَ ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى”..فمتى نستفيق ونعود إلى رشدنا بعد كل هذا الخراب؟