مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: المنشاوي..اجلِسْ فإنَّ هنا قلبًا يتكلم بالقرآن

55عامًا بالتمام والكمال مرت على رحيل القاريء الشيخ محمد صديق المنشاوي، ولكن هل مات “المنشاوي” حقًا؟ حقيقة الأمر..لا؛ لأن “المنشاوي” –الذي يُعتبر بشهادة القاصي والداني أحد عظماء قراء القرآن الكريم في التاريخ الحديث -لا يزال بتلاواته المُجودة والمُرتلة حيًا بين ظهرانينا. صوت “المنشاوي” حاضرٌ على مدار الساعة، إذاعيًا وفضائيًا، محليًا وخارجيًا. خلال أقل من 16 عامًا فقط، هي رحلته الإذاعية، بلغ “المنشاوي” شأوًا عظيمًا وشأنًا متفردًا، وطبَّقت شُهرته الآفاق. ألحقت الإذاعة القاريء الشاب بسجلات قرائها في خواتيم 1953؛ فهي مَن سعت إليه وليس العكس، فيما غيَّبه الموت في منتصف 1969 عن عمر ناهز 49 عامًا، وفي آخر عامين..انقطع الشيخ لدواعٍ طبية عن القراءة في المناسبات والحفلات الخارجية. في حالة “المنشاوي” تصدُق مقولة: “السيرة أطول من العمر”. كانت سيرة “المنشاوي” –ولا تزال- مُفعمة بالبركة الحقيقية التي تتحدى قوانين المنطق وحسابات العقل. هناك بشرٌ يُعمرون ويعيشون ضعفي عُمر “المنشاوي”، ولكن سيرتهم تنطفيء لحظة رحيلهم عن الدنيا أو قبل الرحيل. يصدُق على “المنشاوي” الحديث المنسوب إلى النبي الكريم الذي يقول: “خذوا القرآنَ مِمَّنْ إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى اللهَ”. كان يُضرب المثل بـ”المنشاوي” في الخشية والخشوع أثناء التلاوة، حتى سمُّوه: “القاريء الخاشع” و”القاريء الباكي”. جميع الألقاب الفخيمة تقف عاجزة أمام الحالة المنشاوية، ولا تكاد تُضاهيها أو توفيِّها حقها. قال “المنشاوي” كلمته وأوصد الباب وراءه بإحكام ثم رحل. أهل العلم والاختصاص والاستماع يكادون يُجمعون على أن الإذاعة المصرية لم تعتمد قارئًا عظيمًا وفخيمًا بعد “المنشاوي”. كتب الأديب القدير محمد القوصي –رحمه الله- يومًا: “إنَّ الشيخ المنشاوي أغلقَ بابَ تلاوة القرآن من بعده، فلا يستطيعُ أحدٌ من القُرّاء أن يقتربَ من أدائه الفريد، ومن صوته الملائكي”. مسؤولو إذاعة القرآن الكريم يؤكدون أن الشبكة تحظى بأعلى نسب الاستماع عند إذاعة تلاوات “المنشاوي” المرتلة والمجودة. يُدهشك “المنشاوي” مرتلاً ومجودًا..ومؤذنًا أيضًا، كأن الله خلقه على عينه، وهيأه لهذه المهمة الربانية. تُرى..ماذا لو أمدَّ الله في عمر الشيخ الجليل عقدًا أو عقدين آخرين؟!
طاف “المنشاوي” العالم الإسلامي، وقرأ في المسجد الأقصى –فكَّ الله أسره- وغيره من بيوت الله العامرة في سوريا وليبيا والكويت وغيرها. ولـ”المنشاوي” تلاوات نادرة وخاشعة تجعل الحليم حيرانَ، وتجعله يضرب كفًّا بكفٍّ مرددًا: “أبَشَرٌ هذا مثلنا”؟!
“المنشاوي يُمثِّلُ حالة استثنائية، يحارُ أمامَها الذائق الفَهِمُ؛ فمن يتأمَّلْ مخارجَ الحروفِ عنده يصعب أنْ يجد لها وصفًا، وذلك لِمَا منحه اللهُ من حنجرة رخيمة، ونبرةٍ شجيةٍ تلينُ لها القلوبُ والجلود معًا”، بهذا قطع الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، مُدللاً على عبقرية “المنشاوي” بقوله: “يتجلَّى ذلك عند ختامُه للتلاوة، فتراهُ يستجمعُ كلَّ إبداع التلاوة في آخر آيتين، بحيثُ يجعلكَ تعيشُ معه أشدّ لحظاتِ الخشوع على الإطلاق، وما عليكَ إلاَّ أنْ تتأملَ استرساله ما بينَ السرعة والتلقائية العجيبة، كما في سورة “الإسراء”، وبينَ الهدوء وخفض الصوت كما في سورة “العَلَق”، عند قراءته: “كلاَّ إنَّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى، إنَّ إلى ربك الرجعى…”.
من عظيم ما كُتبَ عن “المنشاوي” أيضًا: “هو ذلك المسافرُ من أثقال التراب إلى معارج الملائكة، صوتٌ غريبٌ عتيقٌ، إذا حزن كأنما يتنفس في صدر سيدنا يعقوب، وإذا خشع فكأنما يجلس في ظلال العرش، وإذا وعظَ فقرأ: “قد خلت من قبلكم سُنَنٌ”، فكأنما يجلس فوق منبر الأزمنة؛ ليقُصَّ على الناس مُخبآت الحِكَم والأقدار، وإذا قرأ آيات البشارة فكأنما طمع في الفرح كله، فصبَّه في ذبذبات صوته الحنون بلا بهرج ولا صخب ولا افتعال..هو ذلك الصوت الأوَّاب الذي يقول لك: اجلس؛ فإن ها هنا قلبًا يتكلم بالقرآن، ولن يكون حالك بعد السماع مثل حالك قبلها أبدًا؛ إنه لينثر في حقول الصدور بذور الآخرة”!

زر الذهاب إلى الأعلى